﴿وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ﴾



                                   الطغيان في المأكل والمشرب      
يقول تعالى في سورة طه: ﴿كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى﴾..وعبارة "الطغيان في الأكل من الطيبات"، قد تعني:
أولاً: كفران النعمة..إن الآية في سياق التحدث عن بني إسرائيل، حيث يقول تعالى في الآية السابقة: ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى﴾.. فالطغيان -بحسب الظاهر- هو في الأكل من الطيبات، وذلك بكفران النعمة، وعدم أداء شكرها، كما قالوا: ﴿...يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا...﴾.
ثانياً: الأكل زيادة عن الحاجة..إن أغلب الناس -مع الأسف- يطغون في الأكل والشرب هذه الأيام، رغم أن حاجة أبداننا إلى الطعام؛ أقل بكثير مما نأكل!.. والشاهد على ذلك: أن بعض الناس في شهر رمضان المبارك، لا يستيقظون لتناول طعام السحور، أي أنهم يأكلون في اليوم والليلة وجبة واحدة، ورغم ذلك يكونون بكامل نشاطهم، ولا فرق بين نشاطهم في شهر رمضان وفي غيره، إن لم يكونوا أكثر نشاطاً، بسبب خفة الطعام والشراب.. وكذلك الأمر بالنسبة إلى النباتيين الذين لا يأكلون الأغذية الحيوانية؛ فإنه ليس هناك فرق بينهم وبين غيرهم في النشاط والحيوية.. لذا، فإن الإنسان المؤمن عليه أن يسيطر على هذا المعنى!..
السلبيات..
ليس هناك من يقول بحرمة الأكل الزائد، فرب العالمين أكرم الأكرمين، ويوم القيامة لا يحاسب الإنسان الذي أكل رغيفين، رغم أنه يشبع برغيف واحد؛ هذا ليس دأب الكرماء!.. ولكن هنالك سلبيات لكثرة الطعام والشراب، منها:
أولاً: سلب الحكمة.. ورد في روايات أهل البيت (عليهم السلام) إشارة إلى أن الفطنة مع الجوع.. 
1.روي عن النبي ( ) أنه قال: (نور الحكمة الجوع..)؛ الإنسان الحكيم، هو الإنسان الذي يستوعب الأمور كما ينبغي!.. 
2. روي عن الإمام علي (عليه السلام) أنه قال: (لا فطنة مع بطنة)؛ والفطنة حالة من النباهة الباطنية.
3. روي عن الإمام علي (عليه السلام) أنه قال: (لا تجتمع الفطنة والبطنة)؛البطنة؛ أي الأكل الكثير، هذا لا يجتمع مع الفطنة.
فإذن، إن هذه المزية العقلية؛ مرتبطة بعدم الأكل الكثير.. ومن الممكن أن نوجه القضية طبياً -ولكنها أعمق من الطب- فالإنسان عندما يأكل، من الطبيعي أن قسماً من دمه -الذي هو طاقة البدن- يتوجه إلى الجهاز الهضمي.. وبالتالي، فإنه ينصرف عن جهاز التفكير!.. ولهذا عندما يأكل الإنسان يحس بشيء من الفتور والكسل، وعدم المزاجية لقراءة كتاب يحتاج إلى تفكير، إن كان ولابد أن يقرأ؛ فإنه يقرأ كتاباً مسلياً.. فليس هناك إنسان يذاكر في كتب الرياضيات -مثلاً- وغيره من الكتب وهو ممتلئ من الطعام والشراب!..
ثانياً: موت القلب.. إن القضية فوق عوالم الطب، إنها قضية القلب!.. قال النبي (): (لا تميتوا القلوب بكثرة الطعام والشراب، وإنّ القلوب تموت كالزروع إذا كثر عليه الماء)؛ لا يراد بالقلب هنا حتماً المخ والتفكير، إنما القلب الباطني؛ أي روح الإنسان.. والشاهد على ذلك حالة الإنسان في شهر رمضان المبارك عند الإفطار، روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: (للصائم فرحتان: فرحةٌ عند الإفطار، وفرحةٌ عند لقاء الله عزّ وجلّ)؛ هذا الإنسان يعيش حالة من حالات الأنس الباطني.. فحالة الصائم عند الإفطار حالة متميزة؛ لأن هذا الجوع الذي كان معه في النهار، أعطاه شيئاً من الشفافية والنور في القلب، ولكن بمجرد أن يأكل كأن هذا النور يُسلب منه.. فإذن، إن القضية هي قضية نور الباطن، وحكمة الباطن.
ثالثاً: كثرة النوم.. إن من لوازم كثرة الطعام والشراب؛ النوم الكثير.. فالذي يأكل كثيراً؛ أيضاً يزداد نومه.. واجتماع كثرة الأكل مع كثرة النوم، تجلب المضرة كما ورد عن الإمام علي (عليه السلام) حيث قال: (كثرة الأكل والنوم، يفسدان النفس، ويجلبان المضرة).. يكفي أن النائم في حال سكون، وفي حال موت.. صحيح أن كُتّاب السيئات لا يكتبون عليه شيئاً؛ ولكن في نفس الوقت هذا إنسان ذهب وقته هدراً، ويوم القيامة يؤتى بهذه الساعات الفارغة، فيندم عليها.. روي عن النبي (): (إنه يُفتح للعبد يوم القيامة على كلّ يوم من أيام عمره، أربعة وعشرون خزانة - عدد ساعات الليل والنهار-.. فخزانة يجدها مملوءة نوراً وسروراً، فيناله عند مشاهدتها من الفرح والسرور، ما لو وُزّع على أهل النار لأدهشهم عن الإحساس بألم النار، وهي الساعة التي أطاع فيها ربه.. ثم يفتح له خزانة أخرى، فيراها مظلمة منتنة مفزعة، فيناله عند مشاهدتها من الفزع والجزع، ما لو قُسّم على أهل الجنة لنغّص عليهم نعيمها، وهي الساعة التي عصى فيها ربه.. ثم يُفتح له خزانةٌ أخرى، فيراها فارغة، ليس فيها ما يسّره ولا ما يسوؤه، وهي الساعة التي نام فيها أو اشتغل فيها بشيء من مباحات الدنيا، فيناله من الغبن والأسف على فواتها حيث كان متمكّنا من أن يملأها حسنات ما لا يوصف، ومن هذا قوله تعالى: ﴿ذلك يوم التغابن﴾).
رابعاً: عمى القلب.. إن الكلام ليس في خصوص الحرام، فالإنسان الذي يكثر الطعام الحرام؛ هذه مصيبة قاصمة للظهر؛ إنما الكلام في الطعام الحلال!.. عن أمير المؤمنين (عليه السلام): (إذَا مُلِئَ البَطْنُ مِنَ المُبَاحِ؛ عَمِيَ القَلْبُ عَنِ الصَّلاَحِ).. هذه الرواية من المناسب أن نكتبها في منازلنا، في غرفة الطعام، لعلها تقيدنا!.. فالكلام ليس في أكل لحم الخنزير، إنما حتى في أكل اللحم الحلال.. فإذا كانت هذه نتيجة من ملأ بطنه من المباح؛ فكيف إذا امتلأ بالحرام؟!..
العلاج..
إن العلاج يكمن في التأمل بروايات أهل البيت (عليهم السلام) والعمل بها.
أولاً: إن المؤمن يأكل بثلث بطنه، روي عن رسول الله (): (مَا مَلأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ، بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أُكُلاتٌ يُقِمْنَ صُلبَهُ، فَإِنْ كَانَ لا مَحَالةَ: فَثُلثٌ لطَعَامِهِ، وَثُلثٌ لشَرَابِهِ، وَثُلثٌ لنَفَسِهِ). 
ثانياً: إن المقياس سهل جداً، والكل بإمكانه أن يطبق ذلك: ما عليه إلا أن يقوم عن الطعام وهو يشتهيه، أي وهو جائع إجمالاً.. بحيث لو جيئ له بطعام شهي، لا يشعر بالغثيان عند شم رائحته.. روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) لابنه الحسن (عليه السلام): (يا بني!.. ألا أعلمك أربع كلماتٍ تستغني بها عن الطب؟.. فقال: بلى، قال: لا تجلس على الطعام إلا وأنت جائعٌ، ولا تقم عن الطعام إلا وأنت تشتهيه، وجوّد المضغ، وإذا نمت فاعرض نفسك على الخلاء.. فإذا استعملت هذا استغنيت عن الطب.. وقال: إنّ في القرآن لآيةً تجمع الطب كله: ﴿...كُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ﴾).
ثالثاً: إن بعض الناس قد لا تنفع معه كل هذه الروايات، فهو لا يريد الفطنة، ولا يريد العقل، ولا يريد نور الباطن؛ إنما كل همه أن يتلذذ من الطعام!.. هنا يأتي دور هذه الرواية، فمن لم تحركه الرواية التي تشير إلى عمى القلب وصلاحه، يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): (قلة الغذاء: كرم النفس، وأدوم للصحة)؛ ألا يريد الإنسان العافية والسلامة؟.. 
رابعاً: إن الحمية هي خير علاج، روي عن العالم (عليه السلام) أنه قال: (الحمية رأس الدواء، والمعدة بيت الداء، وعوّد بدناً ما تعوّد).
خامساً: إن هذه الرواية تدل على أن الذي يقلل من الطعام والشراب، حتى لو كان وثنياً؛ يُعطى جائزةً.. فرب العالمين بناؤه على الإنصاف، لذا فإن من يجاهد نفسه عن المشتهيات؛ يُعجّل له الجزاء في الدنيا، ولهذا نرى بعض الخوارق والأعاجيب من الكفرة!.. قال الله تعالى في حديث المعراج: (يا أحمد، إنّ العبد إذا جاعَ بطنُه، وحَفِظ لسانَه؛ علّمتُه الحكمة، وإنْ كان كافراً؛ تكون حكمته: حجّةً عليه، ووبالاً.. وإنْ كان مؤمناً؛ تكون حكمته له نوراً وبرهاناً، وشفاءً ورحمة: فيعلم ما لم يكن يعلم، ويُبصر ما لم يكن يُبصر، فأوّل ما أُبصره عيوب نفسه حتّى يشتغلَ عن عيوب غيره، وأُبْصره دقائقَ العلم، حتّى لا يَدخُلَ عليه الشيطان.. يا أحمد، ليس شيءٌ مِن العبادة أحبّ إليّ مِن الصمتِ والصوم).
-(يا أحمد، إنّ العبد إذا جاعَ بطنُه، وحَفِظ لسانَه؛ علّمتُه الحكمة، وإنْ كان كافراً)..ولهذا بعض المؤلفات من الكفرة، فيها مضامين حكمية، وكلام جميل!.. ألا يقول تعالى: ﴿إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا﴾!.. قد يقول قائل: أين ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾؟.. الرواية فيها تتمة، يقول بعد ذلك: 
-(تكون حكمته: حجّةً عليه، ووبالاً)..هذا الحكيم الكافر يوم القيامة يعذب ضعفين، يُقال له: هذا كان كافراً لأنه جاهل؛ بينما أنت أعطيناك شيئاً من الحكمة؛ ومع ذلك بقيت على كفرك!.. فإذن، هذه الحكمة تكون وبالاً عليه في الآخرة!..
سادساً: قد يقول قائل: إن هذه الروايات جيدة في المسجد، ولكن عند مائدة الطعام، فإنه كما يُقال في الأمثال الشعبية: "عند البطون تعمى العيون، أو تضيع العقول"!.. لذا، فإن الإنسان الذي تخونه إرادته؛ عليه أن يطلب من الله عز وجل المدد؛ عندئذٍ رب العالمين يوفقه لقلة الطعام!.. وهذه الرواية التي ذُكرت في مستدرك الوسائل تشير إلى هذا المعنى، روي عن الإمام علي (عليه السلام) أنه قال: (إِذَا أَرَادَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ صَلَاحَ عَبْدِهِ؛ أَلْهَمَهُ: قِلَّةَ الْكَلَامِ، وَقِلَّةَ الطَّعَامِ، وَقِلَّةَ الْمَنَامِ)..
-(إِذَا أَرَادَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ صَلَاحَ عَبْدِهِ؛ أَلْهَمَهُ).. إذا أراد الله سبحانه صلاح عبده لا يتدخل مباشرة، وينزل عليه ملكاً؛ إنما يوفقه للمقدمات، التي منها:
-(قِلَّةَ الْكَلَامِ).. أي لا يكون عنده مزاج، كي يتكلم كثيراً.. بعض المؤمنين، إذا تكلم كثيراً؛ كأنه يشعر بألم في فكيه، يتعب فيسكت؛ هذا من مصاديق الإلهام.
-(وَقِلَّةَ الطَّعَامِ).. من يستطيع أن يسيطر على نفسه، ويملك زمام المبادرة، ولا تفلت الأمور من يده، هذه نعمة من الله تعالى.
-(وَقِلَّةَ الْمَنَامِ).. بعض الناس يطلب من الله عز وجل أن يخفف نومه في خير وعافية؛ لأن قلة النوم حالة مرضية، إذا نام قليلاً أقل من المستوى المطلوب.. ولكن بعض المؤمنين رب العالمين أعطاهم هدية، ينام في النهار والليل أربع ساعات؛ وكأنه نام ضعف ذلك؛ وهذا توفيق إلهي!..

 المصدر:منتدى الكفيل