حوار القرآن ومنطق التكفير
يتساءل كثيرون، ممن يبحثون في الشؤون الدينية، عمّا إذا كان ممكناً إجراء الحوار مع أهل الإيمان في ضوء منطق التكفير الذي تنطوي عليه بعض الآيات القرآنية بحق اليهود والنصارى؟ ويرى هؤلاء أن هذا المنطق يسجّل موقفاً عدائياً من أهل الكتاب ( انظر: المطران، كيرلس بسترس، العلاقات الإسلامية المسيحية، م. س، ص257.)، وهنا يكمن السؤال الأساسي، ما هي جدوى الحوار والقرآن يحكم مسبقاً بكفر من لا يحتكم إلى رسالة الإسلام، كما قال الله تعالى: ﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ سورة المائدة، الآية: 44 . كما يتساءل البعض أيضاً عمّا إذا كانت النصرانية التي توجّه إليها القرآن بالنقد، هي النصرانية المعاشة اليوم، وهناك الكثير من الآباء الذين طرحوا هذه التساؤلات، وكان آخرهم المطران جورج خضر، وغيره من المطارنة الذين أثاروا الجدل حول هذا النقد القرآني للمسيحية ( العلاقات الإسلامية المسيحية، م. س، ص215.)، وقد تقدّم الكلام في أن القرآن استحضر تاريخ بني إسرائيل، وأهل الكتاب بكل ما ذهبوا إليه في مجال العقيدة ليجادلهم، ويبيّن تهافت الآراء والمعتقدات الدينية لديهم. والقرآن، كما نعلم، لم يستحضر التاريخ لمجرد عرض الرأي، وإنما بهدف الاستناد إلى طبيعة وحقيقة ما تقتضيه السنن التاريخية، بحيث يتمكّن الإنسان المؤمن من الاعتبار بها والانطلاق منها في صياغة رؤيته الدينية والإنسانية في ضوء ما جاء به الرسل والأنبياء، وبما أن القرآن هو الكلمة النهائية والكاملة في التاريخ الديني، فإنّه لا بدّ من تبيان أهم المقولات التي سادت في حياة أهل الإيمان، وخاصة أهل الكتاب ليكون المؤمن على بيّنة من أمر دينه، لعله بذلك يهتدي إلى سبل السلام. فالقرآن يحاور لا بهدف التكفير أو اللعن، بل بهدف إظهار ما كان عليه اليهود والنصارى في تاريخهم الديني، وإثارة دفائن العقول للتدبر والتعقّل فيما تعنيه العقيدة والشريعة في حياة الإنسان، وفيما جاء به الأنبياء لهدايته من قوانين وتعاليم ووصايا، وهو هدف، كما بيّن القرآن، سعى إليه الأنبياء جميعاً، وكلّموا به الإنسان في التوراة والإنجيل والقرآن، وقبل ذلك في صحف إبراهيم (عليه السلام).
ومن هنا، نرى أن التكفير الذي عرض له القرآن في بعض الآيات ليس موقفاً عدائياً من أهل الكتاب، كما رأى المطران بسترس، أو غيره من الآباء، إذ كيف يكون ذلك صحيحاً، والقرآن في ندائه يقول: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً ... ﴾؟
إن الكفر الذي تتحدّث عنه الآيات، كما في قوله تعالى: ﴿ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ ﴾، وقوله تعالى: ﴿ مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ ... ﴾سورة البقرة، الآية: 105. ، هو كفر الذين احتبستهم الأماني، وادّعوا أن الجنّة هي حكرٌ على مَن كان يهودياً أو نصرانياً، ورأوا في إبراهيم (عليه السلام) ما لم يره فيه الله تعالى من دين وانتساب، فقالوا: إن إبراهيم كان يهودياً أو نصرانياً، أو قالوا: كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا، وغير ذلك مما جادل فيه أهل الكتاب دونما التفات إلى التحققات التاريخية لهم، وبمعزل عمّا إذا كانت النصرانية اليوم هي غير النصرانية التي خاطبها القرآن ودعا إلى الحوار معها، باعتبار أن القرآن صادق، ولا ينطق عن الهوى فيما جاء به من أوصاف في الاعتقاد والعمل، وآياته تنطق بالحق فيما زعمته كل ديانة أو فرقة في العقيدة والشريعة والأخلاق، ولا شكّ في أن كل محاججة قرآنية، سواء مع بني إسرائيل، أم مع اليهود، أم مع النصارى، أم مع غيرهم ممن كانت لهم شبهة كتاب، أم مع الصابئة الذين عرضت لهم بعض الآيات، كل محاججة إنما كانت تهدف إلى إقامة الحوار والمجادلة بالحسنى، كما قال الله تعالى: ﴿ وَلَا تُجَادِلُواْ أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُواْ ﴾ سورة العنكبوت، الآية: 46.
إذن، التكفير إنما يطال تلك الفرق التي لم تهتدِ إلى حق، واستمرت في الدعوة إلى الباطل، وقالت على الله تعالى غير الحق فيما رأته من دين وعقيدة، هذا فضلاً عمّا لجأت إليه بعض الفرق والديانات من تحريف وتقتيل، إضافة إلى قتل الأنبياء وتكذيبهم فيما جاؤوا به عن الله تعالى. أما أن يقال: إن التكفير يشكل موقفاً عدائياً مسبقاً بين أهل الإيمان، فذلك قول غير صحيح، وتنقصه الأدلة والبراهين، وقد ناقش القرآن الكثير من المعتقدات، مقدماً الأدلة والبراهين الساطعة على عدم صحتها، فلو كان القول بكفرهم موقفاً عدائياً لما استحضروا من التاريخ، ولما نوقشوا في تاريخ الإسلام، ولما استمرت الدعوة إلى الحوار مع أهل الكتاب، وبما أن هذا كله قد حصل، فهو خير دليل على ما يتضمّنه القرآن من روحية حوار ومنطق سديد وسليم في الدفاع عن العقيدة الحقة التي ينبغي على أهل الإيمان أن يهتدوا إليها في كل عصر وزمان، كما قال الله تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى ﴾ .
فالله تعالى يقول: إن الإسلام هو الحق، وهو الهدى، وليس بعد الحق إلا الضلال، ﴿ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ .
وإذا كان للتكفير من معنى حقيقي وجوهري، فإنه يمكن لحاظ هذا المعنى في سياق الرؤية الدينية الكاملة، التي تشخّص الأقوال والأحوال، وتظهر مدى العناد الذي مارسه بعض أهل الكتاب، أو فريق منهم في مواجهة دعوة الحق التي جاء بها الإسلام، لأن المحاججة القرآنية دفعت بالكثيرين من اليهود والنصارى إلى الإيمان بالرسالة الجديدة، والأخذ بها عقيدة وعملاً، كما قال الله تعالى: ﴿ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى ... ﴾ . في حين أن الفريق الذي رفض الدعوة وعاند في قبول الحق، وأعلن العداء للإسلام والقرآن، فهذا الفريق اختار بإرادته أن يكون كافراً وفاسقاً وظالماً، وهذا ما يشخّصه القرآن ويبيّنه في جملة من الآيات المباركة التي تراوح فيها الوصف بين أن يكون الإنسان جاحداً أو معانداً، أو مكابراً، أو منافقاً، أو كافراً، أو فاسقاً، أو ظالماً، إلى غير ذلك من الآيات التي تميّز بين أهل الكتاب بالأوصاف، وتفصل بينهم فيما زعموه من قول وفعل، في الاعتقاد أو في غيره، وقد تجلّى هذا الأمر فيما عرضنا له عن الخطاب القرآني المتنوع مع أهل الكتاب تارة، ومع اليهود والنصارى طوراً، وثالثاً مع بني إسرائيل الذين خوطبوا بأن لا يكونوا أول كافر به، كما قال الله تعالى: ﴿ وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ ... ﴾ . ثم إن طبيعة الحوار القرآني ليست قائمة على مبدأ الرفض للآخر لما هو معلوم عن جوهر رسالة الإسلام لجهة كونها حافظة ومهيمنة على ما جاء به الرسل والأنبياء، ما يحتّم أن تكون رسالة هادية وكاشفة عن الحق والهدى ليكون الإنسان على بصيرة من نفسه ودينه، فإذا ما أخذنا التكفير على أنه أسلوب رفض وإلغاء، فإننا نكون قد جانبنا الحقيقة، وقلنا بغير علم، ذلك أنّ ما وصف به أهل الكتاب، أو اليهود، أو بنو إسرائيل، إنما هو ناظر إلى أعمالهم وما هم عليه من رؤى وأفكار تطال الدين والمجتمع والإنسان، كما أنه لاحظ لطبيعة تحولات أهل الكتاب، وليس مجرد حكم يطلقه القرآن عليهم، أو أنه يراد لهم أن يكونوا على ما هم عليه، بل هم الذين اختاروا الكفر على الإيمان، ﴿ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ﴾ سورة البقرة، الآية: 101.
المصدر:. موقع جمعية القرآن الكريم