الحوار والقتال في القرآن الكريم

يعرض القرآن الكريم للحوار في مجموعة من الآيات التي توقفنا عندها ملياً في بحوثنا السابقة، ولكن السؤال الذي يطرحه بعض الباحثين هو: كيف يمكن التوفيق بين الدعوة إلى الحوار وبين الآيات التي تأمر بقتال أهل الكتاب، وتضعهم في مصاف المشركين، أو على الأقل تجعلهم على شبه بهم. وخاصة في الآيات التي عرضت لهم فيما زعموه بأفواههم، كما في قوله تعالى: ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾ [88] .

يقول العلاّمة مكارم الشيرازي: «في الآيات محل البحث بيان لوجه الشبه من أهل الكتاب والمشركين، ولا سيما اليهود والنصارى، وهذا الشبه لانحرافهم عن التوحيد، وميلهم إلى نوع من الشرك في العقيدة، ونوع من الشرك في العبادة» [89] .

وغير خفي أن الأمر بقتال أهل الكتاب كما جاء في الكتاب العزيز لا يمكن فهمه إلاّ من خلال دلالة السياق، حيث نجد أن الأمر بالقتال لم يأتِ مباشرة، وإنّما جاء معلَّلاً بحيث يفهم منه أن سبب القتال وعلّته هو أنهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يدينون دين الحق، فهم لكونهم كذلك، سواء أكانوا أهل كتاب، أم لم يكونوا يجب قتالهم حتى يعطوا الجزية، وهذا ما عرضت له سورة التوبة فيما قدّمته لجهة البراءة من المشركين، ومقاتلة أئمة الكفر، ثم الأمر بقتال الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، كما قال الله تعالى: ﴿ قَاتِلُواْ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ﴾ [90] ، وكما رأينا أن علّة قتالهم هي أنهم لا يؤمنون بالله تعالى، ولا باليوم الآخر... وهذا الأمر يشمل كل أهل الكتاب لكون من بيانية وهي للجنس وليست تبعيضية، كما يقول علماء التفسير. تماماً كما في قوله تعالى: ﴿ فَاجْتَنِبُواْ الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ ﴾ [91] .

يذهب العلامة الطباطبائي في الميزان [92] ، والزمخشري في الكشاف [93] ، والطوسي في التبيان [94] ، والطبرسي في مجمع البيان [95] ، إلى أنّ الآية، وإن كانت تشير إلى شبَه بين أهل الكتاب وبين المسلمين إلاّ أنها من جهة أخرى تشير إلى شبه بينهم وبين المشركين، وكما يقول الزمخشري ويوافقه الطباطبائي، إنّ الآية تنفي الإيمان بالله عنهم لأن اليهود مثنية والنصارى مثلثة، وإيمانهم باليوم الآخر لأنهم فيه على خلاف ما يجب، وتحريم ما حرّم الله ورسوله، لأنهم لا يحرِّمون ما حرّم في الكتاب والسنّة [96] ، وقد أكمل العلامة الطباطبائي هذا المعنى بالمزيد من الرؤية الموضوعية، فرأى أن الله تعالى ينسب إليهم في كلامه أنهم يُثبتونه إلهاً، وكيف لا؟ وهو يعدهم أهل الكتاب، وما هو إلاّ الكتاب السماوي النازل من عند الله على رسول من رسله ويحكي عنهم القول أو لازم القول بالألوهية في مئات الآيات من آيات كتابه. إنّ المراد بعدم إيمان أهل الكتاب بالله واليوم الآخر عدم تلبّسهم بالإيمان المقبول عند الله تعالى، وبعدم تحريمهم ما حرّم الله ورسوله وعدم مبالاتهم في التظاهر باقتراف المناهي التي يُفسد التظاهر بها المجتمع البشري، وبعدم تديّنهم بدين الحق، عدم استنانهم بسنّة الحق المنطبقة على الخلقة والكون [97] .

ويبقى الفرق فيما بين المشركين وأهل الكتاب، هو أن الله تعالى أمر بقتال أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية، وهنا يكمن الفارق الأساسي والجوهري أن قتالهم لا يكون بهدف اقتلاعهم كالمشركين، وإنّما بهدف إعطاء فرصة للعيش معهم فيما لو احترموا الإسلام ولم يتأمّروا ضده، وعلامة هذا الأمر، كما يرى العلاّمة مكارم الشيرازي، هي أن يوافقوا على دفع الجزية للمسلمين [98] ، وفي غير هذه الحال، فإنّ الإسلام أمر بقتالهم، وقد ذكرنا آنفاً أن سياق الآية جاء في سياق البراءة من المشركين في سورة التوبة ما يؤكّد أن الأحكام لا بدّ أن تلحظ في سياق واحد، وهذا ما لم يلتفت إليه كثير من المفسرين [99] ، إذ لم نجد أحداً منهم يعرض لهذا الأمر على النحو الذي يميز بين أن يكون الأمر بالقتال حكماً خاصاً، أو حكماً عاماً، باعتبار أن الإسلام في مبادئه التشريعية يؤسس لحرب دفاعية، ولا يحب الاعتداء، بل ينهى عنه، كما قال الله تعالى: ﴿ وَلَا تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ [100] ، وقال الله تعالى: ﴿ فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾  [101] ، إلى غير ذلك من الآيات التي أسس فيها القرآن للحرب الدفاعية، وهذا ما لحظه شمس الدين في بحوثه عن الجهاد في الإسلام، مبيناً أن الحرب إنما تكون شرعية فيما لو كانت دفاعية، وأن الآيات دالة بظهورها على أن كفّ الكفّار عن حرب المسلمين والعدوان عليهم يجعل من الممكن إقامة حالة سلام بين المسلمين وبينهم [102] ، كما هو مفاد الآية (91) من سورة النساء منطوقاً ومفهوماً، كما قال الله تعالى: ﴿ سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّواْ إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُواْ فِيهَا فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّواْ أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ  ... ﴾ [103] .

إذن، بعض المفسرين لم يميّز بين أن يكون الأمر بالقتال حكماً خاصاً أو عاماً، باستثناء العلاّمة مغنية، الذي رأى أن الأمر بقتال المشركين إنما كان حكماً خاصاً لسبب خاص، وهو أن المجتمع الإسلامي كان في بدء تكوينه، وأن المشركين كانوا طابوراً خامساً يكيدون للإسلام وأهله، فاقتضت المصلحة إخراجهم من الجزيرة أو قتلهم، والأمر هنا بقتال أهل الكتاب أمر خاص بالذين كانوا في الجزيرة لسبب خاص أيضاً وهو أن أهل الكتاب كانوا يتحالفون مع المشركين على محاربة المسلمين، كما فعل يهود المدينة وما حولها بعد تأمين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لهم [104] . وهنا يتبدّى لنا الموقف الحاسم فيما تعنيه الآية من أمر بالقتال، ومما يعزّز رأي مغنية بأن الأمر هو حكم خاص لسبب خاص، هو ما تؤسس له آيات سورة الممتحنة التي تبيّن الحكم فيما يتعلق بالموقف من المجتمعات غير المسلمة، سواء أكانت مؤمنة أم غير مؤمنة، مشركين أم أهل كتاب، حيث قال الله تعالى: ﴿ لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُواْ عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [105] .

هذا هو المبدأ التشريعي العام الذي يُحتكم إليه في ما ينبغي أن تكون عليه العلاقة بين المجتمع الإسلامي، والمجتمعات الأخرى. وإذا كان لا بدّ من القتال، فإنما يكون بعلّة العدوان وليس بعلّة الكفر، كما قال الله تعالى في خطابه للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): ﴿ وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ﴾ [106] ، ما يعني الاستعداد لقبول عرض السلام، لإقرار حالة السلام بين المسلمين وغيرهم، فإنّ وجوب قبول الدعوة إليه، إن كان عادلاً، هو مبدأ من مبادئ التشريع الدفاعي العسكري في الإسلام [107] . وهذا احتمال ظاهر في آية القتال وعدم الاعتداء، كما يرى الأيرواني في أن المقاتلة إنما تكون لمن يقاتل دون المسالم المستعدّ للصلح» [108] ولم يخالف في هذا إلاّ الفقيه الفاضل المقداد في كنز العرفان، الذي رأى أن القول بأن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كفّ عمّن كفّ عنه ممنوع، بل كان ينتظر الفرصة وحصول الشرايط» [109] .

مما تقدم، نستطيع القول: إنه لا معنى لأن يقتحم البعض الأمر بالقتال ليستنتج أنه لا معنى للحوار في ظلّ الدعوة إلى القتال، وكلّنا يعلم أن المسلمين في تشريع الجهاد، أو فيما اصطلح عليه بفقه الجهاد يقسّمون الجهاد إلى ثلاثة أقسام، الأول هو قتال الكفّار، والثاني هو قتال أهل الكتاب، والثالث هو قتال أهل البغي [110] ، وقد بينّا أن قتال أهل الكتاب إنّما يكون حكماً خاصاً، وهم مخيّرون بين قبول الإسلام ودفع الجزية، فإن بذلوها حرّم قتالهم، وكما يرى المطران بسترس: «إنه منذ البداية اعترفت الشريعة الإسلامية بالمسيحيين في تميزهم لا كأفراد وحسب، بل كجماعة، لذلك وجد في المجتمع الإسلامي على مدى العصور نوع من التعددية الدينية، ولكن هذه التعددية تفترض تراتبية ما. لقد أمنت منظومة «أهل الذمّة» حرية العبادة والحرية للمسيحيين، لكنها اشترطت لذلك ولاءً سياسياً كاملاً وتضمنت نوعاً من الخضوع» [111] .

لقد بيّن علماء الأصول أنه لا بدّ من معرفة المطلق والمقيّد فيما جاء به القرآن من أحكام، وإذا كان حكم القتال أو الجهاد قد أطلق فإنّ قيده هو ﴿ فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾ [112] ، إذ لا يجوز القتال لمجرّد الكفر كما هو صريح آية ﴿وَلَا تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ [113] ، إضافة إلى أن الإسلام لا يقدّس الحرب، وإنّما يدعو إلى السلام، وإلى احترام كرامة الإنسان وحريته فيما يريد التعبير عنه، كما قال الله تعالى: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾ [114] ، وقال الله تعالى: ﴿أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [115] ، فالإسلام لا يكره أحداً على اعتناقه، ويؤسس لعلاقات تفاعلية مع المجتمعات الأخرى، سواء أكانت مؤمنة أم غير مؤمنة، كافرة، أم معاهدة، وإذا كان القرآن قد أكثر من استعمال مفردات الكفر أو الفسق، أو الظلم، فذلك إنما جاء في سياقات مختلفة للتدليل على مذاهب القوم فيما هم عليه من آراء ومعتقدات ما أنزل الله بها من سلطان، ولم تكن هذه المفردات لأجل إظهار أو تأكيد مشروعية القتال لأهل الكتاب أو لغيرهم، لأنّ الحوار والسلام هو الأساس في منظومة الهداية القرآنية، والقتال هو الاستثناء، كما قال الله تعالى: ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ... ﴾ [116] .

إنّ آيات القرآن التي تدعو إلى الحوار والجدال والدعوة بالحسنى، منطوقاً ومفهوماً، تثبت أن الحوار هو السبيل الوحيد للإهتداء إلى سبل السلامة في الحياة، وقوله تعالى: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاءٍ ... ﴾، لهو خير دليل على ذلك، كما أن هذه الآية تؤكّد أن أهل الكتاب حتى ولو كانوا مؤمنين هم على خيار أن يقيموا على دينهم ويؤدّوا الجزية، وبين أن يقبلوا الإسلام، وقد ظهر من النصارى حسن إجابة في التاريخ الإسلامي، وكانوا موضع عناية القرآن، كما قال الله تعالى ﴿وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ ... ﴾ [117] ، أو قوله تعالى: ﴿ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى ﴾ [118] ، وهذا كما بينّا، بخلاف المشركين، فإنهم لم يكُن يُقبل منهم إلا قبول الدعوة، وكما يقول العلاّمة الطباطبائي (قده)، فكثرة المؤمنين منهم لا تدلّ على حسن الإجابة [119] ، ولعل منطوق ومفهوم قوله تعالى: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاءٍ ﴾ ناظر إلى هذا المعنى، رغم كل آيات القرآن التي عرضت لليهود دون النصارى في سياق واحد، أو تلك الآيات التي عرضت لأهل الكتاب والمشركين في سياق واحد بلحاظ المغايرة بينهم كما في قوله تعالى: ﴿ مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ ... ﴾ [120] .

غاية القول: إنه لا تناقض بين الحوار والقتال في القرآن، لأن القتال هو لردّ العدوان، وليس لفرض الرأي، أو لأسلمة الأمم، كما يدّعي بعض الباحثين فيما زعمه من تقديس للحروب في تاريخ الإسلام والمسلمين، وإنّ أدنى تأمّل فيما عرض له القرآن من آيات تحثّ على السلام، لا بدّ أن يكشف عن أبعاد الحوار القرآني، بحيث تظهر الأمور على النحو الذي يؤكّد لذي عقل بأن الإسلام هو دين عالمية الرحمة، وليس دين السيف والقتال. فإذا قلنا: إنّ في القرآن حواراً وقتالاً، فليس ثمة تناقض بين الأمر بقتال المعتدين، وبين المجادلة لهم ليكفّوا عن عدوانهم، سواء الفكري، أم المادي، وهذا الفهم يمكن التأسيس عليه لكون ما جاء في القرآن من توصيفات لأهل الكتاب، أو للمسلمين، أو لغيرهم، من كفر وفسق وظلم لا يشكّل مبرراً لحربهم، وكما قال الله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ ﴾ [121] . وهنا لا ندري كيف نوفّق بين تفسير الزمخشري الذي رأى أن اللام في «الفاسقون» هي لام الجنس، والأحسن أن تكون إشارة إلى أهل الكتاب[122] ، وبين ما ذهب إليه العلاّمة الطباطبائي (قده)، الذي رأى أنه لا يبعد أن تكون لام العهد الذكري [123] .

ونحن نرى أن الأحسن أن تكون للجنس لكون السياق في دلالة الآيات يظهر ذلك، فيكون المعنى ظاهر الدلالة على الكفر وأنه الفسق، فهم لكفرهم فاسقون، ومثلما أن هذا ينطبق على أهل الكتاب، فإنه ينطبق على المسلمين أيضاً فيما لو كفروا بما أنزل الله من البيّنات، وكما يرى علماء التفسير أنه إذا استعمل الفسق في نوع من المعاصي وقع على أعظم ذلك النوع من كفر وغيره [124] ، وهذا ما لحظه الراغب في مفرداته [125] ، فرأى أن الفسق يقابل الإيمان وليس الكفر، كما قال الله تعالى: ﴿ أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً ... ﴾ [126] ، هذا كله يدلّل على أن مفهوم ومنطوق آيات القرآن في مجال الرؤية الحوارية لا يتعارض مع الأمر بالقتل لكون التوصيف ينطبق على كل مَن يكفر بآيات الله تعالى، فهل يُعقل أن يكون تحقق الكفر، أو الفسق، أو الظلم في أمة، أو في جماعة؛ سبباً وعلّة لقتالهم؟ فما يكون معنى الحوار إذاً؟ والدعوة إلى الحوار قائمة لهداية الناس وإخراجهم من الشرك إلى التوحيد، ومن الظلم إلى العدل، ومن الكفر إلى الإيمان. فالقتال هو للمعتدي بهدف أن تنتظم حياة المجتمع، فتكفّ أيدي المعتدي، ويستعد لقتاله لمنعه من العدوان، كما قال الله تعالى: ﴿ وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ... ﴾ [127] ، ولا شكّ أيضاً في أن ما يذهب إليه بعض الباحثين من اعتبارٍ لآيات القتال، فهو إنما يؤخذ به استثناءً، سواء في مواجهة أهل الكتاب، أم غيرهم ممن لم يؤمن وكفر بآيات الله تعالى، وعلى هذا المعنى يمكن أن نذهب إلى تفسير الكثير من الآيات القرآنية بحيث يؤخذ بالاتجاه الموضوعي لفهم الكفر أو الفسق أو الظلم في القرآن الكريم، فلا يكون موضوعه أمة بعينها، وإنّما الكفر، أو الفسق، أو الظلم بعينه، فإذا فُهم معنى المصطلح وما يُراد به، وما هو مغزى إطلاقه، فإنّه حينئذٍ يمكن استيعاب المدلول العام من خلال استنطاق الآيات لمعرفة المؤدّى الذي تحمله، فلا يُقال: إن القرآن يكفّر أهل الكتاب، فكيف يدعو إلى التحاور معهم، بل يُقال: إن الكفر معناه القرآني يقع على أنواع وأنحاء عدّة [128] ، وهذه الأنحاء قد تطال أهل الكتاب، وقد تطال أهل الإسلام، فلا يكون المعنى خاصاً بقوم أو جماعة ليُقال بأن الإسلام يأمر بقتال أهل الكتاب، باعتبار أن التشريع في الإسلام ليس له خاصية أن يكون لقوم وإنّما هو للعالمين، كما قال الله تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ﴾ [129]وقال الله تعالى: ﴿ لِأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ ... ﴾ [130] ، إلى غيرها من الآيات التي تدلّل على معنى وميزة هذا التشريع الإلهي لجهة كونه لاحظاً للإنسانية كلها، فمثلما أن الحوار مع الجميع؛ فكذلك القتال هو مع الجميع فيما لو حصل الاعتداء.

وإذا كان المسلمون قد أخفقوا في تجاربهم التاريخية، فإنّ الإسلام لا يحمل وزر هذه التجارب وما انطوت عليه من تفسيرات وتأويلات للآيات القرآنية، وخاصة بحق أهل الكتاب. والحق يُقال: إن تاريخ المسلمين فيه من الكفر والفسوق والمظالم ما لا يمكن أن يُقاس بما عند غيرهم، ما يعني ضرورة التدبُّر في المعطى القرآني ليكون الإنسان على بيّنة مما يدعو إليه ويتحاور من أجله حتى تكون له روحية الإيمان في مواجهة الكفر والفسوق والظلم، وهذا ما أردنا التأكيد عليه في هذا البحث لإثبات أن الحوار القرآني هو الأساس في حركة الإيمان في مواجهة كل أنواع الكفر من أي جهة كانت [131] ، وإلى أي فئة انتمت، فالكفر هو الكفر، وقد قال رسول الله : «ألا لا ترجعنَّ بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض...» [132] .

وهذا كلام للمسلمين، ذو دلالة عامة، والمورد لا يخصص الوارد، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، بحيث يفهم الإنسان أن الخطاب القرآني هو خطاب للإنسان في كل زمان ومكان، سواء أكان مسلماً، أم غير مسلم، وفي هذا السياق القرآني يمكن فهم الدعوة إلى الحوار، وكذلك الأمر بقتال مَن لا يؤمن بالله واليوم الآخر ولا يدين دين الحق.. ليس في زمان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، بل في كل زمان ومع كل رسول، كما قال الله تعالى: ﴿ وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [133] ، والآية ـ كما يرى العلاّمة الطباطبائي (قده) ـ تشير إلى مخالفة أهل الكتاب، فريق منهم، للحق من حيث كتمانهم بشارة التوراة وعدم إيمانهم بمن يصدق ما معهم [134] ، وهذا دليل على تواصل الرسالات والرسل، وعلى ضرورة أن يكون الحوار متواصلاً مع أهل الكتاب وغيرهم من منطلق أن القتال إنما يكون لمن لا يؤمن بالله واليوم الآخر ولا يدين بدين الحق ثم يعتدي، وهذا هو خطاب النبوة في كل زمان ومكان. وعليه تواتر الأنبياء والرسل، فإذا كانت أوامر الآيات تخص أهل الكتاب فيما يكون منهم، فليس معنى ذلك تخصيص الخطاب بهم، لكونهم إذا آمنوا وأسلموا لله أمرهم، فلا يكون ثمة معنى لقتالهم بل يحرم ذلك، كما بيّن العلماء في فقه الجهاد، وفي تفسير الآيات. والله العالم والمسدّد للصواب، والحمد لله ربّ العالمين.

 [88] سورة التوبة، الآية: 30.
[89] الشيرازي، ناصر مكارم، تفسير الأمثل في كتاب الله المنزل، مؤسسة الأعلمي، بيروت، ط1، 2007، ج5، ص193.
[90] سورة التوبة، الآية: 29.
[91] سورة الحج، الآية: 30.
[92] الطباطبائي، محمد حسين، تفسير الميزان، م. س، ج9، ص249.
[93] الزمخشري، جار الله محمود بن عمر، الكشاف، م. س، ج2، ص554.
[94] الطوسي، محمد بن حسن، التبيان في تفسير القرآن، مكتبة الإعلام الإسلامي، قم، ج5، ص202.
[95] الطبرسي، الفضل بن الحسن، مجمع البيان، مؤسسة الأعلمي، بيروت، ج5، ص40.
[96] الزمخشري، الكشاف، م. س، ج2، ص254.
[97] الطباطبائي، تفسير الميزان، م. س، ج9، ص250.
[98] الشيرازي، ناصر مكارم، تفسير الأمثل، م. س، ج5، ص193.
[99] نقول: لعل التحالف مع المشركين والتآمر على المسلمين من المشركين وأهل الكتاب كان سبباً للأمر بقتالهم، وهذا ما نرى فيه حكماً خاصاً، هذا رأي مغنية.
[100] سورة البقرة، الآية: 190.
[101] سورة البقرة، الآية: 193.
[102] شمس الدين، محمد مهدي، في الاجتماعي السياسي الإسلامي، المؤسسة الدولية، بيروت، ط2، 1999، ص105.
[103] سورة النساء، الآية: 91.
[104] يقول معنية: «إن محور سورة التوبة يقوم على غزوة تبوك... وقد بلغ النبي أن الروم، وهم في الشام على أطراف الجزيرة يجمعون الجيوش للانقضاض على الإسلام وأهله، وكانت كل القرائن والدلائل تؤكّد أن أهل الكتاب في الجزيرة كانوا عيناً وعوناً للروم النصارى على المسلمين، وأنهم يتآمرون معهم على النبي ومن اتبعه من المؤمنين، ومن أجل هذا كان الحكم فيهم القتل أو إلقاء السلاح والخضوع لحكم الإسلام مع إعطاء الجزية...
را: مغنية، محمد جواد، تفسير الكاشف، م. س، ج4، ص32.
[105] سورة الممتحنة، الآيتان: 8 ـ 9.
[106] سورة الأنفال، الآية: 61.
[107] شمس الدين، محمد مهدي، في الاجتماع السياسي، م. س، ص105.
[108] را: الأيرواني، باقر، تفسير آيات الاحكام، قم، ط3، 1428هـ، ج1، ص242.
[109] را: عبد الله السيوري، جمال الدين المقداد، كنز العرفان في تفسير القرآن، قم، 1380، ط2، ص316.
[110] مغنية، محمد جواد، فقه الإمام الصادق ، دار التيار الجديد، بيروت، ط5، 1984، ج2، ص263.
[111] بسترس، كيرلس، العلاقات المسيحية الإسلامية، مركز الدراسات الاستراتيجية، م. س، ص267.
[112] سورة البقرة، الآية: 193.
[113] يرى السيد الخوئي في البيان، أن الآيات القرآنية الآمرة بالقتال إنما وردت في جهاد المشركين... وأما أهل الكتاب فلا يجوز قتالهم إلاّ مع وجود سبب آخر من قتالهم للمسلمين، لقوله تعالى: ﴿ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ [البقرة: 256] . وكلام السيد جاء في سياق الردّ على مَن ذهب إلى القول بأن قوله تعالى: ﴿ وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾. [البقرة، الآية: 109] قد نسخ بآية السيف، حيث روي عن ابن عباس وقتادة والسعدي، ذلك واختاره أبو جعفر النحاس، وآية السيف هي قوله تعالى: ﴿ قَاتِلُواْ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ﴾ [التوبة: 129] ، وقد ناقش السيد الخوئي هذا الرأي مبيناً أنه لا يمكن القول بنسخ الآية الأولى بالآية الثانية، لأنّ الالتزام بالنسخ هنا، كما يرى السيد يتوقف على الالتزام بأمرين فاسدين، الأول: أن يكون ارتفاع الحكم الموقت بانتهاء وقته نسخاً، وهذا واضح الفساد، فإن النسخ إنما يكون في الحكم الذي لم يصرح فيه لا بالتوقيت ولا بالتأييد... فالنسخ هو رفع الحكم الثابت الظاهر بمقتضى الإطلاق في الدوام وعدم اختصاص بزمان مخصوص، وعلى هذا الأساس يكون دور الآية، آية السيف بيان الوقت والغاية للحكم المذكور في الآية الأولى دون أن تكون ناسخة له.
أما الثاني، فهذا أن يكون أهل الكتاب ممن أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بقتالهم، وذلك باطل؛ فآية السيف لا تأمر بقتال أهل الكتاب بشكل مطلق حتى تصبح معارضة لآية الصفح، وإنما هي تأمر بقتالهم عند عدم دفع الجزية. وعليه، فإنه لا يجوز قتال أهل الكتاب فيما لو لم يبدأوا بقتال، أو لم يحدثوا الفتنة التي هي أشدّ من القتل، أو لم يمتنعوا عن إعطاء الجزية، فإذا لم يأتوا بشيء من ذلك، فإنه يكتفي بالصفح والعفو عنهم كما جاء في آية الصفح المدعى نسخها، فتكون الآية الثانية مقيدة لإطلاق الأولى لا ناسخة لها.
را: الخوئي، أبو القاسم، البيان في تفسير القرآن، مؤسسة الأعلمي، بيروت، 1974، ص289. وقا: مع الحكيم، محمد باقر، علوم القرآن، مؤسسة الهادي، قم، ج1، ص208. فالسيد الحكيم يعقّب على رأي السيد الخوئي، ويقول بقيد آية السيف لإطلاق آية الصفح، هنا تبدو لنا أهمية علم الناسخ والمنسوخ، والمطلق والمقيّد في علوم القرآن، وهنا يطرح التساؤل الكبير حول مذاهب من قال بالنسخ لآية، وهي ليست كذلك!!!
[114] سورة البقرة، الآية: 256.
[115] سورة يونس، الآية: 99.
[116] سورة البقرة، الآية: 216.
[117] قال الله تعالى: ﴿ وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ﴾ [المائدة: 83] .
[118] سورة المائدة، الآية: 82.
[119] انظر: الطباطبائي، محمد حسين، تفسير الميزان، ج6، ص79.
[120] سورة البقرة، الآية: 105.
[121] سورة البقرة، الآية: 99.
[122] انظر: الزمخشري، الكشاف، م. س، ج1، ص171، وقا: مع الطباطبائي، الميزان، ج1، ص228.
[123] الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، ج1، ص. ن.
[124] الزمخشري، الكشاف، م. س، ج1، ص171.
[125] يقول الراغب الأصفهاني: «الفسق أعم من الكفر، والفسق يقع بالقليل من الذنوب وبالكثير ولكن تعورف فيما كان كثيراً... وإذا قيل للكافر الأصلي فاسق، فلأنه أضلّ بحكم ما ألزمه العقل واقتضته الفطرة، قال الله تعالى: ﴿ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ﴾ [الكهف: 50] . فالفاسق أعم من الكافر، والظالم أعمّ من الفاسق...».
را: معجم مفردات ألفاظ القرآن الكريم، دار الفكر، بيروت، لا ت، ص394. وقا: مع ابن منظور في لسان العرب، دار المعارف، مصر، لا ـ ت) ج5، ص3414.
[126] سورة السجدة، الآية: 18.
[127] سورة الأنفال، الآية: 60.
[128] جاء في لسان العرب عن أهل العلم أن الكفر على أربعة أنحاء: كفر إنكار بألا يعرف الله أصلاً، ولا يعترف به، وكفر جحود، وكفر معاندة، وكفر نفاق، من لقيَ ربه بشيء من ذلك لم يغفر له، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء».
را: لسان العرب، م. س، ج5، ص3898. وقا: مع: الدامغاني، قاموس القرآن، م. س، ص115.
[129] سورة الأنبياء، الآية: 107.
[130] سورة الأنعام، الآية: 19.
[131] الكفر أنواع: هناك كفر الحجود، وهو إنكار وجود الله تعالى، وكفر بالألوهية، كأن يعتقد المرء بأن الله موجود إلاّ أنه ليس بإله، وهناك كفر بالوحدانية، كأن يعتقد أن الله ليس بواحد، وهذا هو الشرك. وهناك الكفر بالنبوّة أو المعاد، بأن لا يعتقد بهما. والكفر بكل ضرورة يؤدي بها إلى إنكار رسالة محمد ، وهناك الارتداد، المرتدّ الفطري، والمرتدّ الملّي، ثم الكفر بالنعمة، ثم كفر البراءة.
انظر: الشيخ الغديري، عيسى إبراهيم، القاموس الجامع للمصطلحات الفقهية، دار المحجة البيضاء، ط1، 1998، ص482.
[132] را: ابن منظور، لسان العرب، م. س، ص2404.

[133] سورة البقرة، الآية: 101.

[134] الطباطبائي، محمد حسين، تفسير الميزان، م. س، ج6، ص79.

المصدر:موقع جمعية القرآن الكريم