الإمام الحسين عليه السلام منار التوحيد في القرآن الكريم
بالرغم من مرور أربعة عشر قرنا ويزيد على نهضة السبط الشهيد، فان هناك المزيد من الحقائق التي لابد ان نستوحيها منها، والبصائر التالية لمحة من تلك الحقائق:
الإمام الحسين عليه السلام معلّم الحنفية
أوتـدري لماذا منع بنو أمية - شأنهم شأن كل الجبابرة عبر التاريخ - من أن يتعلم الناس أبعاد حقيقة الشرك، ومسؤولية الإنسان أمام الانحراف والفساد أو الكفر والضلالة ؟ كما في الرواية عن الامام الصادق عليه السلام: "إنَّ بني امية اطلقوا للناس تعليم الايمان ولم يطلقوا تعليم الشرك لكي اذا حملوهم عليه لم يعرفوه".
ولماذا لم يحمل الى المشركين يوم الحج الاكبر وبعد فتح مكة؛ - لم يحمل إليهم - سورة البراءة، التي ابعدتهم نهائيا عن الجزيرة العربية، سوى الامام أمير المؤمنين عليه السلام بأمر من الله سبحانه وكانت تلك من أعظم فضائله ؟
ولماذا الشهادة بالتوحيد في كلمة لا اله الا الله ، تبدء بالرفض ، وكان علينا أن نعلنها صريحة صاعقة كل يوم عدة مرات: أشهد أن لا اله الا الله؟
لكي نعرف الاجابة، لابد ان نتذكر الحقيقة التالية :
ان المنزلق الخطير للبشرية والذي يريد الشيطان ايقاع الناس فيه، هو تمني التوفيق بين الحق والباطل، بين الله سبحانه وبين الشركاء من دونه. لقد حسبوا ان من الممكن ان يتخذوا عباد الله من دونه أولياء، ولم يعرفوا ان ذلك يعني الغاء الايمان بالله رأسا .
قال الله تعالى: (أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِن دُونِي أَوْلِيَآءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً( (الكهف/102))
وانما كان محور المعركة الكبرى بين الرسل والامم الضالة هو التوحيد، ورفض الالهة التي اتخذهـا الناس شركاء لرب العزة. ولم يكن احد من أعداء الرسل ينفي الربوبية عن رب العرش سبحانه ولكنهم كانوا يريدون اتخاذ الالهة معه. وعندما رفض الانبياء عليهم السلام المداهنة في أمر الالهة، واعلنوا البراءة منها وقعت المعركة الكبرى التي انتصر الله لهم فيها وخاب المشركون وصاروا أحاديثاً تلاحقهم اللعنة أبداً .
لقد كانت رسالة الله الى نوح عليه السلام تتلخص في الكلمة التاليـة (أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ( (هود/26))
وتلك كانت صفوة رسالة الله الى هود عليه السلام:( وإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ( (هود/50((
وهي رسالة النبي صالح عليه السلام: (وإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ( (هود/61((
وهي رسالة النبي ابراهيم عليه السلام: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لاَِبِيهِ ءَازَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً ءَالِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ( (الانعام/74((
ورفض النبي موسى عليه السلام طغيان فرعون وتبرأ منـه وقال لـه: (فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمَاً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ( (الشعراء/21((
وهدده فرعون بالسجن وقال له: (قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لاَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ( (الشعراء/29((
وكانت العاقبة ان الله تعالى نصر موسى عليه السلام وقومه وأغرق الآخرين:( وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الاَخَرِيـنَ( (الشعراء/65-66((
وتتلخص رسالة النبي الاعظم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله في اعلان البراءة من المشركين:
(وَأَذَانٌ مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الاَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ( (التوبة/3((
ولم يداهنهم الرسول طرفة عين، بل قال لهم بكل صراحـة: (قُلْ يَـآ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لآ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلآ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ * وَلآ أَنَاْ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ * وَلآ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِـيَ دِيـنِ( (الكافرون/1-6((
واذا استطال الامام علي عليه السلام وحطّم اصنام قريش المرصوصة حول الكعبة بأمر من الرسول، واذا تلى على المشركين في الموسم آيات البراءة منهم، فانه خاض حربا لا هوادة فيها ضد دعاة الشرك الذين تظاهروا بالاسلام. وكانت معركة الجمل ضد الناكثين، ومعركة صفين ضد القاسطين، ومعركة النهروان ضد المارقين. كانت كل تلك المعارك دفاعاً عن التوحيد وقيم التوحيد .
ورفعت أمية راية الشرك المصبوغة بظاهر من طقوس الدين، وقاومها الائمة الطاهرون من أهل بيت الرسالة. فقد حاربهم الامام علي عليه السلام في صفين بسيفه، وحاربهم بخطبه وتركها كلمة باقية في عقبه، فاذا بالامام الحسن المجتبى يحاربهم حيناً بالسيف وحيناً بالكلمة، وورثها الامام الحسين حين حاربهم بالكلمة الصادعة ثم بالقيام الالهي، وختمت له بالشهادة. وكانت البراءة من الشرك، ومعارضة الطغاة ميراث الائمة الهادين وشيعتهم ومواليهم، وستبقى هكذا حتى يرث الله الارض ومن عليها ..
فلا زالت معركة التوحيد ضد الشرك قائمة، ولازالت الفريضة التي لايقبل الله من دونها من أحد عدلا ولا صرفا هي البراءة من الالهة التي تعبد من دون الله . فالكفر بالطاغوت هو الذي يطهّر القلب من حجاب الشرك، ويوفر له فرصة اشراق نور التوحيد عليه . ألا تقرء قوله سبحانه: (لآ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَانفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ( (البقرة/256((
وما هو الطاغوت ؟ أليس كل حجر أو بشر يعبد من دون الله ثم يستسلم له الناس. وتفسير الطاغوت كما في موسوعة بحار الأنوار هو: الطاغوت؛ الشيطان والاصنام وكل معبود غير الله، وكل مطاع باطل سوى أولياء الله، وقد عبّر الائمة عن اعدائهم في كثير من الروايات والزيارات بالجبت والطاغوت، واللات والعزى.
وهذه المعركة الحامية تدور رحاها - في البدء - على صعيد القلب البشري، حيث يختار المؤمنون اجتناب طاغوت الهوى والشهوات، والتسليم لرب العالمين في العقيدة والفكر والاستماع الى داعي الحق. وقد قال ربنا سبحانه في صفة هؤلاء الصفوة : (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُولُواْ الاَلْبَابِ( (الزمر/17-18((
ومن هنا فانه لاينصر الله من ادعى العلم والثقافة ثم آمن بالجبت والطاغوت، بل يلعنه لعنا وبيلا، وقد قال سبحانه: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ اُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلآءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا سَبِيلاً * اُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيراً( (النساء/51-52((
وهذه اللعنة تلحق كل أدعياء العلم الذين يشترون بدينهم ثمنا قليلا، ويركعون أمام بلاط السلاطين ويسجدون إجلالا للمال والمقام .
وقد أمر الله المؤمنين بالكفر بالطاغوت ولم يقبل ايمان طائفة زعموا انهم يؤمنون بالله وبالرسالات الالهية ولم يكفروا بالطاغوت، بل ارادوا ان يتحاكموا اليه. ومجرد التحاكم اليه دليل على رضاهم به، فقال الله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءَامَنُوا بِمَآ اُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ اُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ اُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً((النساء/60((
ولا يبلغ المرء ذروة الايمان حتى يصل كفره بالطاغوت الى درجة البراءة من الذين يعبدون الطاغوت وهم المشركون ولو كانوا اقرب الناس اليهم، وقد قال ربنا سبحانه: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ اُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءَآؤُاْ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغَضآءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُُ( (الممتحنة/4)
وهكذا كان تحطيم الاصنام البشرية والحجرية ورفض جبروت الطغاة وجهادهم في الله جهادا كبيرا، كان ذلك هو الفرض الاول والواجب الأهم لكل من شاء ان يسلك طريق الهدى، والا فانه يبقى في ضلال بعيد.
ولقد علّم الامام الحسين عليه السلام الذي انتهى الى مقامه ميراث الانبياء عليهم السلام، وقام بأداءه بكل شجاعة واخلاص، علّم الناس درس الرفض، واعطاهم معيار البراءة، وعلمهم ماهو الشرك، وكيف يجب ان يطهر البشر حياته منه حتى يصبح مؤمنا حقا ..
فلا مداهنة للطغاة، ولا سكوت أمام المجرمين ، ولا تهرب من واجب المعارضة ضد الظلم، ولا تهاون في فريضة القيام لله واقامة القسط والشهادة للحق، وما أمر به الله سبحانه في قوله: (يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَآءَ بِالْقِسْطِ( (المائدة/8((
وهذا هو الجانب الأهـم من جانبي الإيمان، وهو الذي يحاول الناس التهرب منه لانه أشد وطأً وأعظم مسؤولية ..
في عصر الامام الحسين عليه السلام كان هناك الكثيرون ممن ادّعوا انهم انصار الاسلام وقيادات الجهاد وعلماء الدين، ولكنهم تراجعوا أمام مؤامرات بني امية، بالرغم من علمهم بأنها تهدد كيان الاسلام. فهم آثروا الحياة الدنيا على الاخرة واستمرؤا العيش الرغيد .
وانما الامام الحسين عليه السلام بقيامه الالهي، فصل بين الحق والباطل، وبين أنصار الحق وأدعياءه، وبين خط الرسالة المحافظ على جوهر الدين وخط النفاق المتظاهر بالدين . وعلم الناس؛ ان كل آيات الجهاد وحقائق الحنفية البيضاء الرافضة للانحراف، وكل تعاليم الانبياء عليهم السلام لازالت قائمة وستبقى قائمة عبر العصور، وان الله لم ينزل قرآنا يطبق في عهد الرسول ثم ينتهي ويصبح سفرا تاريخيا غير قابل للتنفيذ. كلا، انه رسالة الله الى البشرية كافة وفي كل الأحقاب .
ولقد أعلن الامام الحسين هذه الحقيقة في كلمته التي وجهها الى العلماء فجاء فيها: أمّا بعد فقد علمتم أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله قد قال في حياته: "من رأى سلطاناً جائراً مستحلاًّ لحرم الله، ناكثا لعهد الله، مخالفاً لسنّة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان ثم لم يغيّر بقول ولا فعل، كان حقيقاً على الله أن يدخله مدخله".
والذين يعرفون هذه الحقيقة من نهضة الامام الحسين عليه السلام، هم وحدهم حفظة جهاده وورثة تضحياته والقائمون على نهضته. وهكذا يجدد المسلمون كل عام، بل كل يوم ذكرى عاشوراء لانهم يعرفون ان عاشوراء ثورة لاتنتهي وانها جزء من حكمة الحياة وان المؤمن لايعترف بسلطة الطاغوت أنى كان، بل يقاومه ويكافحه. وانه يستمد من ذكرى عاشوراء ونهضة الحسين عليه السلام وقود هذا الصراع المقدس، لان الامام الحسين عليه السلام زين السموات والارض ومصباح درب المجاهدين. ولقد جاء في حديث شريف عن النبي صلى الله عليه واله انه مكتوب عن يمين العرش في خصوص الحسين عليه السلام انه: "مصباح هدى وسفينة نجاة" .
واي مصباح أبهر ضياء من مصباح الشهادة، أم أي سفينة أسرع وأوسع للناجين من سفينة الكفر بالطاغوت والقيام لله ضد الظالمين؟
ومن هنا فان أيام عاشوراء هي من أيام الله، حيث هنا يعيش أولياء أهل البيت عليهم السلام روح كربلاء ، حيث البطولة الايمانية والجهاد في سبيل الله، وحيث ذكريات الامام الحسين عليه السلام وأهل بيته وأصحابه الحافلة بالإيثار والفداء ..
انها أيام الرحمة الالهية، حيث يتعرض الصالحون فيها الى نفحات الرب كما تستقبل الاراضي الطيبة غيث السماء .
اذن؛ تعالوا نستقبل - نحن ايضا مع المؤمنين الصادقين - ايام عاشوراء هذا العام كما في كل عام بروح الوالهين ، لكي نتزود منها عزما وعرفانا واستقامة، لعل الله يرحمنا بفضله ويصلح ما فسد من اوضاعنا.
كيف نستقبل هذا الشهر الحرام، وكيف نتزود منه ؟ في البصائر التالية إجابةً على ذلك .
الكلمة المسؤولة
القلب الطاهر ينبت الكلمة الطيبة، والكلمة الطيبة كما شجرة باسقة تؤتي اُكلُها كل حين بإذن ربها. بينما القلب الخبيث كالارض النكدة، لاتنبت إلاّ شجرة خبيثة، لا تزيد الناس إلاّ ضلالاً.
ونهضة الامام الحسين عليه السلام كانت كلمة طيبة، ولاتزال ثمراتها المباركة تمثل طعاما هنيئا للامة الاسلامية. وما المنبر الحسيني سوى مائدة هذه الثمرات المباركة، وأما خطباء المنبر الحسيني فهم فروع هذه الشجرة المباركة ، ومجالس العزاء مدارس هذه الكلمات المباركات .
ان على خطباء المنبر الحسيني ان يعرفوا قدر موقعهم المتميز، وان اي تقصير يصدر منهم سيكون ذا عواقب خطيرة ..
ان الأمة الاسلامية تعاني من نقص حاد جدا في الثقافة الرسالية التي تستوحى من حقائق القرآن وبصائر السنة وواقعيات العصر، ولايزال المنبر الحسيني هو أفضل وأصفى وأطهر وسيلة لبث هذه الثقافة.
وعليهم ان يعرفوا بان كلمتهم يتلقاها الناس بقدر كبير من الثقة والرضا باعتبارها من كلمات الاسلام الحق .
إنَّ أهم نقطة يجب ان يعرفها الناس اليوم هي مدى مسؤوليتهم عن واقعهم المتردي، وانهم لا ولن يتجاوزوا هذا الواقع الا بجهد كل فرد منهم، وان الافكار السلبية والكلمات الانهزامية هي المسؤولة عن كل المآسي لانها تخدر الناس وتبرر لهم سكوتهم وتقاعسهم وعدم اهتمامهم بأوضاعهم.
اننا نعرف الثقافة الصحيحة بمدى بعثها للهمم وشحذها للعزائم وقدرتها على توعية الناس بمسؤولياتهم الحياتية .اما الثقافة الجبانة والتي تبرر المعاذير وتخدر الناس وتمنيهم بالغرور، وتزين لهم الحياة الدنيا، ولاتذكرهم بأن الدنيا مجرد مزرعة ودار فتنة وامتحان.. انها ثقافة يزيدية لاتمت إلى المنبر الحسيني ولا إلى روح عاشوراء بأية صلة، وعلى الناس ان يختاروا المنبر الذي يجلسون اليه ، والخطيب الذي يستمعون إليه؛ فلا يختاروا الا من نطق باسم السبط الشهيد، وتحدث عن نهج الامام الحسين، وكان رافضاً للجبابرة والطغاة، وكان في سلوكه الشخصي مثلاً للمؤمن الموالي لأهل بيت النبوة .
القيادة الربانية
والامام الحسين عليه السلام أركز بنهضته راية الاسلام على أرض صلبة، وبيّن للناس من هو القائد الحق ، ومن هو المدعي للقيادة بالباطل. وقد أطلق في بداية نهضته كلمته المدوّية على مدى التاريخ، والتي أبان علة رفضه البيعة ليزيد عندما طالبه الحاكم الاموي بها فقال له بكل صراحة: "…إنّا أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، وبنا فتح الله، وبنا ختم الله ، ويزيد رجل فاسق شارب الخمر، قاتل النفس المَّحرمة، معلن بالفسق، ومثلي لايبايع مثله…"
وهكذا علّمنا ان القيادة يجب أن تكون في أهل بيت النبوة الذين طهرهم الله من الدنس وأذهب عنهم الرجس ، وفيمن يسير في خطهم، ويكون على نهجهم .
واليوم حيث تتعدد المذاهب وتتشتت القوى لابد ان نبحث عن تلك القيادة الربانية التي لاتأخذها في الله لومة لائم، وان نختار لمسيرتنا القادة الاكفاء الامناء على دين الله، الذين وصفهم القرآن الحكيم بقوله سبحانه: (يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ( (المائدة/54-55))
إن علينا ألا نتهاون في قضية القيادة، فالواجب البحث عنها واختيارها وفق هدى الله وبصائر السنة الشريفة، والتي تتلخص في القيام لله والشهادة بالقسط وعدم خشية غير الله ولا مهادنة الطغاة .. ان ذلك يعتبر مفتاح حل مشاكل الامة، لأن مثل هذه القيادة الربانية ستكون مؤيدة بنصر الله، مزودة بنور التقوى، ومحوراً لأنشطة الناس .
ثم ان التسليم للحق وللقيادة الربانية، تسليما نابعا من القناعة والايمان؛ تسليماً خالصاً لوجه الله؛ تسليما لا ينطلق من الهوى والعصبية والروح الحزبية والاقليمية والحميات الجاهلية، ان هذا التسليم هو الذي يجعل الامة في مستوى أصحاب الانبياء والاوصياء .. الذين يصفهم القرآن الحكيم بقوله: (مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيَماهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ( (الفتح/29))
ان التواضع للمؤمنين والتعالي أمام الكافرين والفساق، والجهاد في سبيل الله في كل الظروف ، هو مقياس القيادة الرشيدة . والامام الحسين عليه السلام معيار للقيادة الربانية، فكل من كان نهجه اقرب اليه كان أجدر بالقيادة، ولا يضل الله سعي امة سلمت أمرها لقيادة الهية تسليما خالصا لوجه ربها ..
المنهج الواضح
إذا عرف الناس انهم هم المسؤولون، ووعوا السنة الالهية الجارية في خلقه أبدا، ألا وهي: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِاَنفُسِهِمْ( (رعد/11). ثم عرفوا القيادة الربانية واتبعوها، فان أهل الحل والعقد والسابقين من المجاهدين والعلماء والصالحين سوف يتشاورون فيما بينهم ليضعوا الخطة الصحيحة والمنهج الواضح للعمل في سبيل الاصلاح..
ان الله وصف عباده بصفات فاضلة أبرزها ان أمرهم شورى بينهم، فاذا أجمعوا أمرهم على شيء اندفعوا نحو تحقيقه بيد واحدة، وكانت يد الله سبحانه مع جماعتهم. فقال سبحانه: (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ( (الشورى/38((
ان اتفاق الامة على المنهج الواضح للعمل هو أعظم ركيزة لوحدة جهودهم ونجاح مساعيهم وتحقيق أمانيهم. والمنهج الواضح هو ميراث هدى الله، والتقوى، والتمسك بحبل الله، وتراكم التجارب بالشورى. وانما توالت على امتنا الهزائم بسبب الضلالة عن هدى الوحي واتباع الهوى والشهوات، والابتعاد عن نور العقل وعدم الاهتمام بعلمية القرار ..
اننا اليوم نعيش في ظروف صعبة، ولا نستطيع ان نقهرها الا بالاعتصام بالله سبحانه، واتخاذ طريق العقل سبيلا الى معرفة حقائق الحياة..
ان أيام عاشوراء والتي تحمل الينا ذكرى أكبر مأساة في التاريخ، هي أيام التعبئة الروحية والعاطفية . ولكن العواطف عند المؤمن لا تخرج عن اطار الوحي والعقل، ولاتتجاوز أحكام الدين الحنيف، بل انها تدعو الانسان الى تطبيق أحكام الله والعمل بشرائعه. وعلى خطباء المنبر الحسيني ان يجعلوا عواطف الامة الجياشة وسيلة لدعوة الناس الى التقوى والعمل بمسؤولياتهم الشرعية .
لقد كان الامام الحسين عليه السلام كلمة ناطقة ودعوة الهية واضحة وبلاغا لرسالات الله مبيناً. ألا تقرأون في يوم عرفة دعاءه الذي هو بلا ريب مدرسة مباركة في توحيد الله ومعرفة اسماءه الحسنى، وتلك كتبه التي قرع بها رأس معاوية كسياط من لهب. انها مدرسة في الاعلام الرسالي وفي فضح انظمة الضلال ومعارضة طغاة كل عصر .
ومنذ خروجه من المدينة وطول مدة بقاءه في مكة المكرمة ثم حركته الى العراق والى يوم عاشوراء، كانت كلماته النورانية تضيء درب المجاهدين في سبيل الله .
وعلينا ان نقرء على الناس خطب الامام الحسين عليه السلام وكلماته المضيئة التي فسرت نهضته العظيمة، ولا ندع للاهواء أن تفسر قيام ابي عبد الله الحسين، بل نستفيد من كلماته هو في بيان اسبابها وعواملها واهدافها، فهي أفضل بيان وخير تفسير .
وهكذا نجعل العاطفة في خدمة العقل، والحب في خدمة الحق، والبكاء طريقا لاصلاح النفس، ونجعل المجالس مدارس للفقه الديني، والمواكب شعائر للدفاع عن المؤمنين من موالي السبط الشهيد والمظلومين في كل مكان.. وإلا فان سيل العاطفة المتدفّقة سيذهب سدى .
5/ الاستقامة حتى الشهادة أو النصر .
وبعد تبيان المنهج ووضوح الاستراتيجية، فنحن بحاجة الى الاستقامة التي نستلهمها من واقعة الطف ومن كلمات السبط الشهيد الذي أطلقها صاعقة قاصعة: "ألا وإنَّ الدَّعيَّ بن الدَّعيَّ قد تركني بين السلّة والذلّة، وهيهات له ذلك، هيهات مني الذلة؟ أبى الله ذلك ورسوله والمؤمنون، وجدود طهرت، وحجور طابت، أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام…" (11((
وكان يقول عليه السلام: سأقول كما قال أخو الأوس…
سأمضي وما بالموت عار على الفتى
اذا ما نوى حقّاً وجاهـد مسلمـا
وآسى الرجال الصالحين بنفسـه
وفــارق مثبـوراً وودَّع مجرمـا
فان عشت لم أندم وإن متُّ لم ألـم
كفى بك ذُلاًّ أن تعيش وترغما
وقال عليه السلام:
فـان تكن الدنيا تعـدُّ نفيســة
فدار ثـواب الله أعلـى وأنبـل .
وإن تكن الابدان للموت اُنشـأت
فقتل امرء بالسيف في الله افضل ..
وقد شرع في نهضته الالهية بكلمته المعروفة: "…خط الموت على ولد ادم مخطَّ القلادة على جيد الفتاة، وما أولهني الى أسلافي اشتياق يعقوب الى يوسف…".
ثم قال: "…، من كان فينا باذلاً مهجته، موطّناً على لقاء الله نفسه فليرحل معنا فانّي راحل مصبحاً إنشاء الله".
وانما كان الصبر من الايمان بمنزلة الرأس من الجسد، لان الايمان الذي ينهار مع أول مشكلة ليس بايمان ابدا. انما فائدة الايمان مقاومة الصعاب، ومناهضة العقبات .
والذين يستسلمون للطغاة، أو ينهارون أمام مشاكل الهجرة في سبيل الله، أو يحسبون عطاءهم في سبيل الله مغرما وأيام جهادهم ضياعا، ان مثل هؤلاء كيف يفسرون الايمان ؟ هل الايمان عندهم كان مؤقتا بوقت، أو مخصوصاً بظرف، او كان معنى الايمان مكاسب ومناصب، أو رفاه ورخاء، أو وظائف ورواتب؟؟
وكيف لا يستحي هؤلاء ان يعتبروا أنفسهم من موالي أبي عبد الله الحسين عليه السلام، الذي أعطى كل ما كان لديه حتى الرضيع قدمه فداءا للاسلام.. ثم قال: "صبراً على قضائك يا رب لا إله سواك يا غياث المستغيثين مالي ربي سواك ولا معبود غيرك… ".ان مثل هؤلاء هم أظهر مصداق لقوله سبحانه: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَآ اُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِن جَآءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِاَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ( (العنكبوت/10))
ان مصداق الايمان يتجلى عندما يفترق الحق عن المصلحة، والهدى عن الهوى، والرسالة عن السياسة، والجهاد في سبيل الله عن الدعة والراحة.
ولا عذر لأحد بعد شهادة السبط الشهيد سلام الله عليه في أن يترك جهاد الطاغوت ، ويبرر ذلك بأن سمعته في خطر، أو ان حياته وحياة أهل بيته أو أصحابه يهددها الطاغوت، أو انه قد لا يبلغ النصر بمثل هذه التضحية .
فالامام الحسين عليه السلام قطع عذر كل معتذر. وقد كان أهل الكوفة في ذلك اليوم الذي انفضوا فيه عن سفير الامام الحسين مسلم بن عقيل سلام الله عليهما بمثل هذه الاعذار، كانوا مثل السوء الذي من أراد أن يتبعهم فليتبعهم، ولكن ليعلم ان عاقبته في الدنيا وفي الاخرة لن تكون أفضل من عاقبتهم فالخزي واللعنة في الدنيا وسوء العذاب في الآخرة.
فمن شاء ان يخدع نفسه فليخدع، ومن شاء أن ينهزم فلينهزم، ومن شاء ان يهادن الطاغوت أو يستسلم له فليفعل، ولكن ليعلم بأن الله للظالمين بالمرصاد، وانه قد أنذر الذين يتركون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأي عذر كان؛ أنذرهم بتسليط الظالمين، وبفتنة لا تصيبن الذين ظلموا منهم خاصة. قال الله تعالى: (يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا اَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَاَنَّهَُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاتُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ( (الانفال/24-25))
ان الامام الحسين علّمنا درس البراءة من الشرك والمشركين، وهي شرط التوحيد. وكان إماما للمسلمين وقدوة واسوة، وكانت قيادته الربانية ونهجه الالهي الواضح واستقامته التي ختمت بالشهادة هي دروس العزة والتقدم والنصر، وسبيل الهدى والرحمة والفلاح .
المصدر: موقع السيد المدرسي دام ظله