حب أهل البيت عليهم السلام في القرآن الكريم
إنّ محبة أهل البيت عليهم السلام والولاء لهم عنصر أساسي من عناصر العقيدة ومقومات الإيمان ومرتكزات الرسالة المحمدية الغراء ، ولقد جاءت النصوص القرآنية والحديثية واضحة وصريحة في تأصيل هذا المبدأ الولائي وتعميق دلالاته ومعطياته .
وسنتناول في هذا الفصل بعض الاَمثلة من النصوص القرآنية التي تظافرت الروايات على نزولها في أهل البيت عليهم السلام لتوكيد محبتهم وفرض مودّتهم ، ونعرض كذلك بعض الاَحاديث والاَخبار التي جاءت لتعميق هذا المبدأ العقائدي القويم ، وذلك في مبحثين :
فيما يلي نعرض أهم النصوص القرآنية النازلة في محبة أهل البيت عليهم السلام أو المفسرة بذلك مع بيان الروايات والاخبار الموضحة لذلك من المصادر المعتبرة .
1 ـ قوله تعالى : ( قل لا أسالكم عليه أجراً إلا المودة في القربى ) (1).
هذه هي آية المودة التي أكدت أغلب كتب التفسير وكثير من مصادر الحديث والسيرة والتاريخ نزولها في قربى النبي صلى الله عليه وآله وسلم : علي والزهراء والحسن والحسين وذريتهم الطاهرين عليهم السلام .
روى السيوطي وغيره في تفسير هذه الآية بالاسناد إلى ابن عباس ، قال: لما نزلت هذه الآية ( قُل لا أسألُكُم عَليه أجراً إلاّ المودَّةَ في القُربى ) قالوا : يارسول الله ، من قرابتك هؤلاء الذين وجّبت علينا مودتهم ؟
قال صلى الله عليه وآله وسلم : « علي وفاطمة وولداهما » (2).
____________
1) سورة الشورى : 21 | 23 .
2) الدر المنثور | السيوطي 6 : 7 ، وروي الحديث أيضاً في : فضائل الصحابة | أحمد بن حنبل 2 : 669 | 1141 . والمستدرك على الصحيحين 3 : 172 . وشواهد التنزيل | الحسكاني 2 : 130 من عدّة طرق . والصواعق المحرقة | ابن حجر : 170 . وتفسير الرازي 27 : 166 . ومجمع الزوائد | الهيثمي 9 : 168 . والكشاف | الزمخشري 4 : 219 . وذخائر العقبى | المحب الطبري : 25 . وإسعاف الراغبين | الصبان : 113 . وسائر كتب المناقب والتفاسير . وراجع كتاب التشيع | السيد الغريفي : 215 ـ 216 .
وهذه الآية تدلّ على وجوب المودة لاَهل البيت الذين نصّ الحديث على تحديدهم ، وقد استدلّ الفخر الرازي على ذلك بثلاثة وجوه ، فبعد أن روى الحديث عن الزمخشري قال : فثبت أن هؤلاء الاَربعة أقارب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، واذا ثبت هذا وجب أن يكونوا مخصوصين بمزيدٍ من التعظيم ، ويدلّ عليه وجوه :
الاَول : قوله تعالى : ( إلاّ المودَّةَ في القُربَى ) .
الثاني : لاشك أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحبّ فاطمة عليها السلام ، قال صلى الله عليه وآله وسلم : « فاطمة بضعة مني ، يؤذيني ما يؤذيها » وثبت بالنقل المتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يحبّ علياً والحسن والحسين، واذا ثبت ذلك وجب على كلّ الاَمة مثله، لقوله تعالى:( واتَّبعُوهُ لَعلَّكُم تَهتَدُونَ) (1)، ولقوله : ( فَليَحذَرِ الَّذينَ يُخالِفُونَ عَن أمرِهِ ) (2).
الثالث:إنّ الدعاء للآل منصب عظيم، ولذلك جُعل هذا الدعاء خاتمة التشهّد في الصلاة، وهوقوله : «اللهم ّصلِّ على محمد وآل محمد وهذا التعظيم لم يوجد في حق غيرالآل، فكلّ ذلك يدل على أن حب محمد وآل محمد واجب.
وقال الشافعي:
يا راكباً قف بالمُحصّب من منى * واهتف بساكن خِيفها والناهضِ
سَحَراً إذا فاض الحجيجُ إلى منى * فيضاً كما نَظم الفراتِ الفائضِ
____________
1) سورة الاعراف : 7 | 158 .
2) سورة النور : 24 | 63 .
إن كان رفضاً حبّ آل محمدٍ * فليشهد الثقلان أني رافضي (1)
وأشار الشافعي إلى نزول آية المودة في أهل البيت عليهم السلام بقوله :
يا أهل بيت رسول الله حبكم فرضٌ من الله في القرآن أنزله (2)
ما روي عن أئمة أهل البيت عليهم السلام في هذه الآية :
احتجّ أئمة الهدى المعصومون عليهم السلام بهذه الآية على فرض مودتهم ووجوب محبتهم وحقّهم على كلِّ مسلم ، فقد روى زادان عن الاِمام أمير المؤمنين علي عليه السلام ، أنّه قال : « فينا في آل حم آية ، لا يحفظ مودتنا إلاّ كل مؤمن » ثم قرأ : ( قُلْ لا أسألكُم عَليهِ أجراً إلاّ الموَدَّةَ في القُربَى ) (3).
وإلى هذا أشار الكميت الاَسدي بقوله :
وجدنا لكم في آل حم آية * تأولها منّا تقي ومعرب (4)
وروي عن الاِمام زين العابدين عليه السلام أنّه قال : خطب الحسن بن علي عليه السلام الناس حين قتل علي عليه السلام فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : « ... وأنا من أهل البيت الذي افترض الله مودتهم على كل مسلم ، فقال تبارك وتعالى : (قُلْ لا أسألكُم عَليهِ أجراً إلاّ الموَدَّةَ في القُربَى ومَن يَقتَرِف حَسَنَةً نَّزِد لهُ فِيها
____________
1) تفسير الرازي : 27 | 166 .
2) الصواعق المحرقة | ابن حجر : 148 ـ 175 . وشرح المواهب | الزرقاني 7 : 7 . والاتحاف بحب الاشراف | الشبراوي : 83 ، المطبعة الاَدبية ـ مصر . واسعاف الراغبين| الصبان : 119 .
3) مجمع الزوائد 9 : 146 . وتاريخ اصبهان 2 : 165 . وكنز العمال 2 : 290 | 4030 أخرجه عن ابن مردويه وابن عساكر . والصواعق المحرقة : 170 . وشواهد التنزيل 2 : 205 | 838 . ومجمع البيان 9 : 43 .
4) من قصيدة الكميت البائية من الهاشميات .
حُسناً ) فاقتراف الحسنة مودتنا أهل البيت » (1).
وأخرج ابن جرير عن أبي الديلم ، أنّه قال : لمّا جيء بعلي بن الحسين عليه السلام أسيراً ، فأُقيم على درج دمشق ، قام رجلٌ من أهل الشام ، فقال : الحمد لله الذي قتلكم وأستأصلكم وقطع قرني الفتنة .
فقال له علي بن الحسين عليه السلام : « أقرأت القرآن ؟ قال : نعم . قال : أقرأت آل حم ، قال : قرأت القرآن ولم أقرأ آل حم . قال : ما قرأت : ( قُل لا أسألكُم عَليهِ أجراً إلاّ المودَّةَ في القُربَى ) ؟ قال : وانكم لاَنتم هم ؟ قال : نعم »(2) .
وروى اسماعيل بن عبدالخالق عن أبي عبدالله عليه السلام ـ في حديث ـ قال : سمعته عليه السلام يقول لاَبي جعفر الاَحول : « ما يقول أهل البصرة في هذه الآية ( قُلْ لا أسألكُم عَليهِ أجراً إلاّ الموَدَّةَ في القُربَى ) ؟ فقال : جعلت فداك ، انهم يقولون : إنّها لاَقارب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . فقال : كذبوا إنّما نزلت فينا خاصة ، في أهل البيت ، في علي وفاطمة والحسن والحسين أصحاب الكساء » (3).
____________
1) المستدرك على الصحيحين 3 : 172 . ومجمع الزوائد 9 : 146 . والصواعق المحرقة : 170 . والفصول المهمة | ابن الصباغ المالكي : 166 . وذخائر العقبى : 138 . وشرح ابن أبي الحديد 16 : 30 .
2) تفسير الطبري 25 : 16 . والبحر المحيط | أبو حيان 7 : 516 . والصواعق المحرقة : 170 . وشرح المواهب 7 : 20 . وروح المعاني | الآلوسي 25 : 31 ، دار إحياء التراث العربي ـ بيروت .
3) الكافي 8 : 79 | 66 . وقرب الاسناد | أبو العباس الحميري : 128 | 450 ، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لاحياء التراث ـ قم ط2 .
تأويلات أُخرى في الآية :
مما تقدم يتبين أن آية المودة واضحة وصريحة في وجوب محبة أهل البيت عليهم السلام ، وهو المعنى المتبادر من الآية كما ذكره العلماء كالكرماني (1)، والعيني (2) وغيرهما ، فضلاً عن الاَحاديث المفسّرة للآية الواردة عن أهل البيت عليهم السلام وعن جمعٍ من الصحابة والتابعين وأئمة الحديث (3).
ورغم أن الآية واضحة الدلالة وضوح الشمس في رائعة النهار إلاّ أن البعض حاول إزالة الحقّ عن موضعه متأولاً كلام الله بما تشتهي نفسه مبتدعاً بعض الاَقوال التي لا تستند إلى دليل علمي أو هي قائمة على دليل واهٍ لا يصلح حجة ولا ينهض برهاناً وافياً في بيان المراد من الآية الكريمة ، وفيما يلي أهم هذه الاَقوال :
القول الاَول : قيل إن الخطاب لقريش والاَجر المسؤول هو مودتهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم لقرابته منهم ، وذلك لاَنهم كانوا يكذّبونه ويبغضونه لتعرضه لآلهتهم على ما في بعض الاَخبار ، فأُمِر صلى الله عليه وآله وسلم أن يسألهم في حال عدم إيمانهم المودّة ، لمكان قرابته منهم ، وأن لا يؤذوه ولا يبغضوه .
ومستند هذا القول هو رواية عن طاووس قال : (سأل رجل ابن عباس عن قول الله عزَّ وجل : ( قُل لا أسألكم عَليهِ أجراً إلاّ الموَدَّةَ في القُربَى ) فقال
____________
1) الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري | الكرماني 18 : 80 ، دار الفكر ـ بيروت ط1.
2) عمدة القاري في شرح صحيح البخاري | العيني 19 : 157 ، دار الفكر ـ بيروت .
3) روى حديث نزول الآية في محبة أهل البيت عليهم السلام ستة من الاَئمة المعصومين عليهم السلام وأكثر من عشرة من الصحابة والتابعين ، وورد الحديث في نحو سبعة وخمسين مصنفاً من مصنفات أئمة الحديث . راجع تشييد المراجعات وتفنيد المكابرات | السيد الميلاني 1 : 236 ـ 239 . والغدير| العلاّمة الاَميني 3 : 172 .
سعيد بن جبير : قربى محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال ابن عباس : عجّلت ، وإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن بطن من بطون قريش إلاّ ولرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيهم قرابة فنزلت : ( قُلْ لا أسألكُم عَليهِ أجراً إلاّ الموَدَّةَ في القُربَى ) إلاّ أن تصلوا قرابة مابيني وبينكم من القرابة) (1).
وفي هذا القول أمور ، منها :
1 ـ إنّ نظرة أولية لسند هذه الرواية تسقطها من الاعتبار ، ففي سندها شعبة بن الحجاج وهو معروف بالوضع والكذب ، وفيه يحيى بن عبّاد الضبعي وهو من الضعفاء ، كما صرح بذلك ابن حجر عن الساجي (2).
ولم يعقّب الذهبي على كلام الساجي في تضعيفه (3). وفيه محمد بن جعفر (4) وقد ذكره ابن حجر مع من تكلم فيه ، وذكر قول ابن أبي حاتم : (..لايحتج به) (5).
وفيه محمد بن بشار وهو أيضاً ممن تكلم فيه علماء الجرح والتعديل ، وذكروا أنه ضعيف (6).
ومما تقدم يتبيّن أن سند الرواية يدل على أنها ساقطة من الاعتبار ولا تكون محلاً للاحتجاج .
____________
1) مسند أحمد 1 : 229 و 286 . وصحيح البخاري 6 : 231 | 314 كتاب التفسير . والمطالب العالية| ابن حجر 3 : 368 .
2) مقدمة فتح الباري | ابن حجر العسقلاني : 452 ، دار إحياء التراث العربي ـ بيروت ط2 .
3) ميزان الاعتدال 4 : 387 .
4) محمد بن جعفر في رواية البخاري .
5) الجرح والتعديل 7 : 222 . وراجع : مقدمة فتح الباري : 437 .
6) مقدمة فتح الباري : 437 . وميزان الاعتدال 3 : 490 .
2 ـ إنّ هذه الرواية معارضة لما تواتر من الاَحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد ذكرنا بعضها آنفاً ، ومعارضة لحديث آخر صحيح عن ابن عباس (1) ، وآخر لسعيد بن جبير ، يصرّحان بأن المراد من القربى في الآية هم : (الاِمام علي، والزهراء، والحسن، والحسين عليهم السلام ) (2).
3 ـ إنّ الآية مدنية لا مكية كما جاء في سبب نزولها ، وإنّ الخطاب فيها لكافة المسلمين لا لخصوص قريش .
القول الثاني : معنى القربى في آية المودة التقرب إلى الله ، والمودة في القربى هي التودد إليه تعالى بالطاعة والتقرب ، فالمعنى : لا أسألكم عليه أجراً إلاّ أن تودّوه وتحبوه تعالى بالتقرب إليه .
ومستند هذا القول رواية منسوبة إلى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال : « قُلْ لا أسألكم عليه أجراً على ما جئتكم به من البينات والهدى إلاّ أن تتقربوا إلى الله بطاعته » (3).
وفي هذا القول عدة أمور ، منها :
1 ـ إنّ الرواية التي يستند إليها هذا القول ضعيفة السند كما صرّح بذلك ابن حجر (4) .
____________
1) البحر المحيط 7 : 516 . وذخائر العقبى : 35 . ومناقب ابن المغازلي : 192 | 263 ، دار الاضواء ـ بيروت .
2) ينابيع المودة 1 : 215 ـ 216 | 1 و 2 و 3 .
3) تفسير الرازي 27 : 165 . وفتح الباري | ابن حجر العسقلاني 8 : 458 ، دار احياء التراث العربي ـ بيروت ط2 .
4) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 8 : 458 .
2 ـ لم يرد في لغة العرب استعمال لفظ القربى بمعنى التقرب
3 ـ إنّ التقرب إلى الله سبحانه هو محتوى ومضمون الرسالة نفسها ، فكيف يطلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم التقرب إلى الله تعالى لاَجل التقرب إلى الله تعالى، وهذا أمر لا يعقل ولا يرتضيه الذوق السليم لاَنّه يؤدي إلى أن يكون الاَجر والمأجور عليه واحد .
على أن في هذه الآية قولين آخرين هما أبعد مما ذكرناه ، فلا يُعبأ بهما، ومن مجمل ما تقدم يتبين أن المراد بالمودة في القربى ، مودة قرابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهم عترته من أهل بيته عليهم السلام ، وقد تكاثرت الروايات من طرق العامّة والشيعة في تفسير الآية بهذا المعنى على ما بيناه في أول الفصل ، ويؤيده الاَخبار المتواترة من طرق الفريقين على وجوب موالاة أهل البيت عليهم السلام ومحبتهم .
وقال الزمخشري بعد اختياره لهذا الوجه : فان قلت : هلاّ قيل : إلاّ مودة القربى ، أو إلاّ المودة للقربى ؟ وما معنى قوله : إلاّ المودة في القربى ؟
قلت : جعلوا مكاناً للمودة ومقراً لها ، كقولك : لي في آل فلان مودة ، ولي فيهم هوى وحبّ شديد ، تريد أحبهم وهم مكان حبي ومحله .
قال : وليست (في) بصلة للمودة كاللام ، إذا قلت : إلاّ المودة للقربى ، إنّما هي متعلقة بمحذوف تعلق الظرف به في قولك : المال في الكيس ، وتقديره : إلاّ المودة ثابتة في القربى ومتمكنة فيها (1).
إنّ التأمل في هذا التأكيد على ثبوت المودة في القربى وتمكنها فيهم
____________
1) الكشاف 4 : 219 .
وكونهم جعلوا مكاناً للمودة ومقراً لها ، والتأمل في الروايات المتواترة الواردة من طرق الفريقين عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم المتضمنة لارجاع الناس في فهم كتاب الله بما فيه من أصول معارف الدين وفروعها وبيان حقائقه إلى أهل البيت كحديث الثقلين وحديث السفينة وغيرهما ، لا يدع ريباً في أن إيجاب مودتهم عليهم السلام على كل مسلم وجعلها أجراً للرسالة ، إنّما كان وسيلة لاِرجاع الناس إليهم ، لما لهم من المكانة العلمية ولبيان دورهم الرسالي والريادي في حياة الاُمّة .
المصدر:موقع مركز الرسالة