ليلة القدر في القرآن الكريم
بسم الله الرحمن الرحيم
. . . في ذكرى القرآن ، و للأيام قسط منها كما للنفوس ، وللتأريخ تشريف وتكريم كما للإنسانية .
على أن القسط الذي تناله الأيام من هذه الذكرى . والشرف الذي يصيبه التاريخ يعودان آخر الأمر فيصبحان حَظّاً من حُظوظ الإنسان .
وشهر رمضان هو الشهر الذي ميّزته العناية بهذا القسط ، وليلة القدر منه هي التأريخ الذي اختصّته الحكمة بهذا التشريف والتكريم .
قد تكون هذه الليلة المباركة من هذا الشهر العظيم وقتاً لنزول القرآن جُملة على قلب الرسول ( صلى الله عليه و آله ) ، ثم تنزّل ـ بعد ذلك ـ مفصّلاً مرتّلاً طيلة عهد الرسالة ، فقد قال بهذا مفسرون وأوّلوا به أحاديث .
وقد يكون هذا الشهر ـ وهذه الليلة منه على الخصوص ـ تاريخاً لنزول أول نجم من نجوم القرآن ، فقد ذهب إليه ذاهبون من علماء التفسير ايضاً . .
و على أي حال فلهذا الشهر ولهذه الليلة صلة وثيقة بنزول القرآن ، وقد شهد بِها القرآن و ناد بها ذكراه ، و أرّخ بها نزوله ، فقد قال في سورة البقرة :
﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ... ﴾ 1 .
و قال في سورة القدر : ﴿ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ ﴾ 2 .
شهر رمضان وليلة القدر هما مطلع هذا النور الإلهي الذي أضاء للإنسانية من ظلمة ، وأنقذها من هلكة ، وبصّرها من عمى ، وهداها من ضلالة ، أفليسا جديرين إذن بالتكريم ؟! .
أليس من الحق أن يكون لهما في الإسلام شأن لا يُجهل ، ومنزلة لا تضيع ؟ .
أليس جديراً بهذا الشهر أن يكون موسم البر ، ومضاعفة الأجر ، وبهذه الليلة أن تكون خيراً من ألف شهر : أن يكون عمل البر فيها خيراً من عمله في ألف شهر كما نطقت به أحاديث أهل البيت ( عليهم السلام ) ، وفسرت به الآية الكريمة ؟ .
وفريضة الصوم هذه التي كتبها الله على الذين آمنوا لعلهم يتقون ، أليست تكريماً لهذا الشهر ، وذكرى للقرآن ، وشكراً لنعمة نزوله ؟ .
إن الآية الكريمة السالف ذكرها قد تشير إلى ذلك ، فإنها قالت : ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ... ﴾ 1 .
نعم وهكذا يعود القسط الذي أصابه شهر الصوم من ذكرى القرآن والذي أصابته ليلة القدر ففضّلت به على ألف شهر ، يعود فيصبح حظاً جديداً يسعد به الإنسان .
ذكرى ليلة القدر
قال لي الأعزاء الذين دعوني للمشاركة في هذا الحفل : ( إنها ذكرى ليلة القدر ) ، فأكبرتُ الذكرى ، وأكبرت القصد .
اقترنت في خاطري مع هذا الاسم الكريم قولة الله ( سبحانه ) عن كتابه :
﴿ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ﴾ 3 .
وقوله ( عز اسمه ) : ﴿ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ ﴾ 4 .
اقترنت هاتان الآيتان في خاطري مع اسم ليلة القدر ، كما يقترن الأليف بالأليف ، وكما يجتمع الحبيب الى الحبيب ، ونزول القرآن في ليلة القدر ـ في ما يعتقده كل مسلم ـ أعظم حادث أوجب لها الفضل ، وأكبر ما فرق فيها من أمر حكيم .
ذكرى القرآن و الإسلام
وإذن ، فذكرى ليلة القدر إنما هي ذكرى القرآن كتاب الله الكريم ، بل وذكرى الإسلام دين الله العظيم .
وإذن فهي ليست ذكرى بالمعنى الذي يعرفه الناس حين يُطلقون هذه الكلمة ، وحين يقيمون الاحتفالات والذكريات ، كما قلت في حديث كتبته عن ذكرى القرآن قبل عام .
إنها ليست ذكرى حادث مرّ وجوده ، ومرّ تأريخه ، وإنما تقام ذكراه ليستبقى بعض آثاره .
ليست ذكرى شيء انتهى أمده من الوجود ، لتبقى عظمته خالدة في القلوب .
ولكنها تعهّد صلة ، وتجديد ميثاق ، وإحكام عهد .
إنها تعهّد المؤمن صلته بالكتاب الذي صدّق ، وبالدين الذي آمن ، وانها تجديد ميثاقه لربّه الذي أخذه عليه في عالم الميثاق ، ثم انطبع في كيان هذا المخلوق ، وفي أغوار نفسه ، طاقة قويّة تستمدّ منها ركائز الفطرة ، ونوراً هادياً تقتبس منه براهين الفكرة :
﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ ﴾ 5 .
إنها تعهّد صلة لم ترثّ ولم تَخلُق ، وتجديد ميثاق لم يَهِن ولم يتزلزل ، واحكام عهدٍ لم تهِ رابطته ، ولم يُنقَض مبرمه ، ولم تتزعزع أسُّه ، ولكن هكذا يريد الله لعبده المسلم ، أن لا تزداد صلته به إلا قوّة ، وأن لا تزداد عقيدته بتوحيده الا رسوخاً وثباتاً ، وأن لا يزداد إيمانه بدينه إلا إشعاعاً وانطلاقاً ، وأن لا تزداد عزيمته في جهاده دون عقيدته ، ودون دينه إلا شدّة ومضاءاً ، وأن لا يزداد صوته في الدعوة إلى الله و الهداية إلى سبيله إلا علوّاً و ارتفاعاً :
﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ﴾ 6 .
﴿ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾ 7 .
هذه هي ذكرى ليلة القدر ـ أيها الاخوة ـ ، أو بالأحرى هذه هي ذكرى القرآن في ليلة القدر .
وليكن معنى نزول القرآن في ليلة القدر ما يكون ، وليقل علماء الحديث وعلماء التفسير فيه ما يقولون .
ليكن معنى ذلك أن هذه الليلة المباركة أنزل فيها أول نجم من نجوم القرآن ، كما يرى البعض ، أو أن القرآن أنزل فيها جملة واحدة ، وليكن ببعض مراتب النزول كما يراه آخرون .
ليكن معنى نزول الكتاب في هذه الليلة وفي هذا الشهر أي معنى ، فان الأمر يستوجب الاهتمام ، ويستوجب التعظيم .
نور و كتاب مبين
﴿ ... قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ ﴾ 8 ﴿ يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ 9
﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ... ﴾ 10 .
المعجزة الخالدة للشريعة الخالدة ، والمنهاج الكامل للسعادة الكاملة ، والروح الحي الذي يهب الحياة الطيبة ، والنظام العدل لحكومة الحق العادلة ، والدستور الثابت الباقي الذي لا عزّ إلا بامتثاله ، و لا نصر إلا في ظلاله .
و إذا كان الإسلام دينَ الحياة ودين الأبد ودين القرون ، و إذا كانت عقيدة الإسلام هي العقيدة التي لا يقبل الله غيرها ، و إذا كانت شريعته هي الشريعة التي لا يرتضي سواها .
﴿ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ 11 .
. . إذا كان كل أولئك حقاً لا ريب فيه ـ وكل أولئك حق لا ريب فيه ـ أفليس من حق البشر كافة أن تقام لهم المعجزة الهادية الباقية التي تكشف الظنون وتخلد مع القرون ؟ .
أوليس من حقهم كافة أن يعيّن لهم المنهاج الكامل للسعادة ، والنظام العادل للحياة ، والسبيل السويّ للخُلق ، والقاعدة المتينة للتربية ، والقوانين الحكيمة للإجتماع والاقتصاد والحكم والسياسة والتدبير ، وأن ينزّل عليهم الكتاب الجامع المعصوم الذي يجمع كل هذه السّمات ويفي بكل هذه الغايات ؟ .
بلى ، وهكذا كان ، ووفت الحكمة المشرّعة الهادية للخلق بما يريدون ، وأنزلت ﴿ ... لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ ... ﴾ 12 .
إعجاز القرآن
هذا هو السر الأكبر في إعجاز القرآن .
فهو الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه في كل جهة من جهاته . وهو الذي لن تبلغه القدرة المحدودة في أي أفق من آفاقه .
أما وجهة البلاغة فهي بعض وجوه الإعجاز فيه ، وهي آخرها جميعاً ، إذا ابتدأنا بالتعداد من أرفعها مكاناً .
و الإعجاز ـ في واضح معناه ـ ظهور القدرة العليا في أثرٍ من آثارها ، حتى يستبين جلياً للقدرة المحدودة أن الإتيان بمثله ليس من المستطاع .
و الإعجاز هي الظاهرة التي تختص بها قدرة الله ( تعالى ) في كل ما تصنع ، وفي كل ما توجِد ، فلا تصنع الا معجزة ، ولا توجد إلا آية . .
﴿ وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ﴾ 13 .
﴿ ... وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ ... ﴾ 14 .
من هذا التراب الواطىء الحقير الذي نستهينه ونطؤه بالأقدام ، ونضرب بضعته الأمثال .
من هذا التراب أنشأت القدرة مخلوقاً فكبرّ الكون وسبّحت الأشياء ، وسجد الملائكة كلّهم أجمعون .
ومن هذه الحروف الميسورة لنا أن نركّب منها ما نريد ، وندلّ بها على ما نريد ، ونتفننّ في تركيبها ، وفي الدلالة بها كما نريد .
من هذه الحروف التي ننطق بها دون كلفة ، ونتفاهم بها دون عسر ، ونتنافس في الافصاح بها دون عناء . . من هذه الحروف يوحي الله كلاماً ، وينزّل كتاباً ، فتطأطأ له الهام ، وتخضع له الأعناق ، وتذهل له الألباب .
﴿ قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾ 15 .
نحن و ذكرى ليلة القدر
هذه هي ذكرى ليلة القدر ـ أيها الاخوة ـ وهذه هي ذكرى القرآن ، فما موقفنا نحن المسلمين منها ؟ .
فهل نكتفي بتعداد فضائل الليلة ، ووجوه إعجاز الكتاب ، ثم نفترق وكأننا صنعنا لإيماننا ولكتابنا ولدعوتنا كلّ شيء ؟! .
إن كتابنا ـ أيها المسلمون ـ يدعونا للعمل فهل نحن عاملون ؟ . وهل نحن جادّون أم هازلون ؟ .
هل نملأ الفراغ العقائدي الذي تقاسيه ناشئتنا وشبابنا ، بل وشيوخنا وكهولنا؟ .
وهل نطبّق مناهج الله (سبحانه) على واقعنا المؤسف ، فنشفي بها عللاً ونصلح زللاً ؟! .
هل نبلّغ دعوة الله وهدى كتابه كل ذي سمع ممن حولنا ، وكل ذي قلب ؟! .
انها أمانة الله في رقابنا ـ أيها الاخوة ـ فهل نحن جادّون في أدائها أم متكاسلون ؟ .
﴿ وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ 16 . ـ وصدق الله العظيم ـ 17
- 1. a. b. القران الكريم : سورة البقرة ( 2 ) ، الآية : 185 ، الصفحة : 28 .
- 2. القران الكريم : سورة القدر ( 97 ) ، الآيات : 1 - 3 ، الصفحة : 598 .
- 3. القران الكريم : سورة القدر ( 97 ) ، الآية : 1 ، الصفحة : 598 .
- 4. القران الكريم : سورة الدخان ( 44 ) ، الآية : 3 ، الصفحة : 496 .
- 5. القران الكريم : سورة الأعراف ( 7 ) ، الآية : 172 و 173 ، الصفحة : 173 .
- 6. القران الكريم : سورة الحجرات ( 49 ) ، الآية : 15 ، الصفحة : 517 .
- 7. القران الكريم : سورة المائدة ( 5 ) ، الآية : 7 ، الصفحة : 108 .
- 8. القران الكريم : سورة المائدة ( 5 ) ، الآية : 15 ، الصفحة : 110 .
- 9. القران الكريم : سورة المائدة ( 5 ) ، الآية : 16 ، الصفحة : 110 .
- 10. القران الكريم : سورة الزمر ( 39 ) ، الآية : 23 ، الصفحة : 461 .
- 11. القران الكريم : سورة آل عمران ( 3 ) ، الآية : 85 ، الصفحة : 61 .
- 12. القران الكريم : سورة التوبة ( 9 ) ، الآية : 17 ، الصفحة : 189 .
- 13. القران الكريم : سورة يوسف ( 12 ) ، الآية : 105 ، الصفحة : 248 .
- 14. القران الكريم : سورة الرعد ( 13 ) ، الآية : 38 ، الصفحة : 254 .
- 15. القران الكريم : سورة الإسراء ( 17 ) ، الآية : 88 ، الصفحة : 291 .
- 16. القران الكريم : سورة التوبة ( 9 ) ، الآية : 105 ، الصفحة : 203 .
- 17. كتاب : من أشعة القرآن القسم الثالث لسماحة آية الله العظمى الشيخ محمد أمين زين الدين ( رحمه الله ) : العنوان رقم (14) .