القرآن الكريم وتحديات العلمنة
يلتقي القرآن مع العلمنة في قضايا الاهتمام المشترك مما يتصل بمساحة الشأن الدنيوي بوجه عام، بملاحظة أن النص القرآني لا يرى في الفكر العقلاني والعلمي خطرا على مشروعه الديني، ذلك أن هذا الرصيد الهائل من الكشوف العلمية التي استطاعت تسخير الطبيعة لإرادة الإنسان، تمثل من وجهة نظر عميقة ـ استجابة غير مقصودة ـ لهدف القرآن ودعوته، وبملاحظة أن إسقاط ـ هالة المقدس ـ عن الأشياء والأشخاص لا تتنافى من بعض الوجوه مع التفسير القرآني للإنسان ومنظومته العملية في تكوين العلاقات .
فالقرآن الكريم الذي يدعو الناس إلى قيمه ومفاهيمه لم يشأ أن يُقيم بين قيمه وبين الناس، الروابط والعلاقات التي كانت تحكم علاقة الناس بقِيَم الجاهلية، وإنما أراد أن يُحرر العلاقة نفسها من السكون والقداسة، أي انه لم يسعَ في خط التغيير إلى استبدال صنم بصنم بحيث تبقى العلاقة هي هي ولكن يتغير طرفها الآخر فالقرآن الكريم لا يثور على العلاقة الساكنة بين الإنسان والصنم أو بين الإنسان وأي معتقد باطل فحسب لأنه وضمن منهجه المميز لشروط التغيير يثور على نمط العلاقة نفسها قبل أن يواجه المحتوى الداخلي للعلاقة، فتراه يقاوم وبشدة بالغة أي ظاهرة من ظواهر الغلو والمغالاة كما تراه يعترض على طقسية العلاقة بالدين نفسه وبالقرآن نفسه إذا تحولت إلى ـ طقس ـ يصادر روحه ويُلغي عنصر التجديد والحيوية فيه …
وفي هذا الضوء نُلفت إلى أن الأزمة التي نشأت بين العلمنة واللاهوت المسيحي لا تنسحب على ثقافة الوحي الإسلامي لسبب بسيط أن سعة النص القرآني بوصفه نصاً مفتوحاً على الارتباط بالحياة الدنيا يُلغي مشكلة التصادم بين العلمنة والقرآن، على الأقل في مساحة الالتزام بتطوير ووعي جدل العلاقة بين الإنسان والطبيعة وقد تسعفنا القراءة العاجلة لسيرة النبي(صلى الله عليه وآله) بمعنى واضح في مجال الدعوة ومهمات التغيير أن النص القرآني في أسلوبه التدريجي الحكيم لم يسعَ إلى تدمير الواقع العربي، لقد احتفظ ومن خلال رؤيته الموضوعية لذلك الواقع بهامش غني أفسح له المجال المحمود لإبقاء ما هو صحيح في مكانه الصحيح، ولذلك لم يُسجِّل التاريخ أن القرآن قد وقف موقفاً سلبياً أو معادياً لمجمل آفاق النشاط العلمي ـ على محدوديته ـ في ذلك الزمان …
لقد واجه تلك الغرسات العلمية المختلفة بالدعوة إلى تعميق الصلة بين الإنسان والعلم بتحريض العقل إلى أقصى الحدود بتربيته الواضحة أن لا سقف في معارج المعرفة ولا إجابات نهائية عند مغامرات العقل، ففوق كل ذي علم عليم [ وقل ربي زدني علما ] ولذلك نرى أن الوقوف عند هذه الفجوة الثقافية بين العلمنة والقرآن وما تثيره الحرب الباردة بينهما من غبار يسدّ علينا منافذ التطلع إلى بناء مستقبلنا العربي والإسلامي قد تُسهم بتحديد دائرةٍ مشتركةٍ لأهمية الحوار العقلي المحايد، لاسيما في مضطرب تاريخنا الثقافي ومخاض البحث عن الهوية الجديدة، أي أن المطلوب في أساس الحوار الجاد الهادف استبعاد منطق الإجابات الجاهزة والنهائية ـ موضوع النزاع ـ واستحضار المزيد المزيد من الأسئلة من منطلق أن خوض العلمنة العربية المعاصرة في دراسة التراث ومناقشة النصوص ـ المقدسة ـ باستخدام مبادئ الاستشراق ومناهجه يُسبغ على أعمالهم نقصاً جوهرياً في نتائج فهم الظاهرة الدينية، ولكي نصل إلى كلمة سواء بيننا وبينهم، علينا أن نبدأ المراجعة النقدية ـ للتراث والمقدس ـ بمشاركة فعلية جنباً إلى جنب، هذا إذا أردنا بكل صدقية وإخلاص تجنب الوقوع في شرك الإشكاليات الملغّزة والمرموزة، وفي المؤثرات السلبية للتنابذ بالألقاب..
إننا وبروحية الأدب القرآني نحمل قلقا كبيرا على مصيرهم ومصيرنا كما نتوجس قلقاً وإشفاقاً على جيلنا الصاعد وهو يكابد مرارة افتراس لحمه وعقله في خطاب ثقافي لا يكف عن تقيح التناقضات … قد لا نتفق على كل شيء وقد نختلف في بعض الشيء، ونتفق على بعضه الآخر إلا أن خوض هذه التجربة الصادقة ستمنح حياتنا الثقافية العربية مأثرة اللقاء وفضيلة الحوار المسؤول لنحصر في نهاية اللقاء والإصغاء، نقاط الخلاف ونقاط التلاقي إذا كنا راغبين في احتلال موقعٍ مشرّف في هذا العصر الجديد [ إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم ](1) .
[ وما لهم به من علم أن يتبعون إلا الظن وان الظن لا يغني من الحق شيئا ](2) .
[ ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد ](3) .
[ ألم ترى إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فان الله يأتي بالشمس من المشرق فأتي بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين ](4) .
ـــــــــــــــ
(1) سورة الزخرف، الآية: 64 .
(2) سورة النجم، الآية: 28 .
(3) سورة الحج، الآية: 3 .
(4) سورة البقرة، الآية: 258 .
الکاتب: الشيخ عباس شحادي