انتصار الفئة القليلة على الفئة الكثيرة
يقول اللَّه تعالى في الآيات 13- 30 من سورة يس:
«وَاضْرِبْ لَهُم مَثَلًا أَصْحَابَ القَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا المُرسَلُونَ* إِذْ أَرْسَلنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إلَيْكُم مُرْسَلُونَ* قَالُوا مَا أَنتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمنُ مِن شَيءٍ إِن أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ* قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ* وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا البَلاغُ المُبِينُ* قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لئِن لَمْ تَنتَهُوا لنَرْجُمَنكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ* قَالُوا طَائِرُكُم مَعَكُمْ أَئِن ذُكِّرْتُم بَل أَنتُمْ قَومٌ مُسْرِفُونَ* وَجَاءَ مِنْ أَقْصَا المَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا المُرْسَلِينَ* اتَّبِعُوا مَن لَّايَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُم مُّهْتَدُونَ* وَمَالِيَ لَاأَعْبُدُ الذِي فَطَرَنِي وَإِلَيهِ تُرجَعُونَ* ءَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً ان يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لَّاتُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيئاً وَلَا يُنقِذُونِ* إِنِّي إِذاً لَّفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ* إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ* قِيلَ ادْخُلِ الجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ* بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ المُكْرَمِينَ* وَمَا أَنزَلنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِن جُندٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ* إِن كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ* يَا حَسْرَةً عَلَى العِبَادِ مَا يَأتِيهِم مِن رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ».
تصوير البحث
المثل المزبور يرتبط بوضع المسلمين في مكة، فقد كانوا فئة قليلة، وكان المشركون يشكّلون الأكثرية، والقرآن استهدف من بيانه هذا المثل إعطاء المسلمين وعداً بالنصر
وتسكين قلوبهم وطمئنتها من خلال نقل قصص ذات صلة. هذا من جانب، ومن جانب آخر هدَّد فئة الأكثرية من المشركين وحذّرهم من الاغترار بكثرة نفوسهم وقدرتهم فقد تغلب الفئة القليلة الفئة الكثيرة.
يمكن النظر إلى آية المثل من زاويتين، وفقاً لإحداهما تكون الآية تشجيعاً وطمئنة للأقلية، ووفقاً لثانيهما تكون الآية تهديداً لأعداء الاسلام ومشركي مكة.كلِّ أحد أن يدعيه، فهل لكما دليل ومعجزة لاثبات كلامكما؟
قالا: نعم، نشفي الذين استعصت أمراضهم.
قال الشيخ: لي مريض قعيد المنزل منذ سنوات، فإذا عالجتموه كنت أول من آمن بكم.
قصد المبعوثان المريض وعالجاه، وبذلك آمن حبيب النجار بالدين الجديد. ثمّ دخلا المدينة ودعيا الناس إلى الدين الجديد، فآمن المشركون بعد ما رأوا معاجز منهما. وانتشر خبرهما وشاع في انطاكية كلها، فكان الناس يقصدونها أفواجاً أفواجاً ويؤمنون بهما.
غضب من هذا التحوّل أولئك الذين كانوا يرون مصالحهم في الاستمرار على عبادة الأصنام، فهاجموا المبعوثين وانهالوا عليهما بالضرب الشديد.
أحاط الخطر ببولص وبرنابا، فقصدا ملك أنطاكية يشتكيان عنده حالهما، لكن هؤلاء منعوهما من لقائه. وبعد التفكير في الموضوع قرّرا الانتظار جنب جدار القصر ويلفتا نظر الملك بالتكبير (اللَّه أكبر) عندما يخرج، باعتبار كون التكبير عبارة جديدة، وعندها يلتقيان به ويطرحان شكواهما عنده.
بعد مدَّة خرج الملك من قصره، فكبَّرا، فسمع تكبيرهما وانتبه لهما، فسأل حواشيه: مَن هما؟ فأجابوه: إنَّهما انتفضا على أصنامنا وأهانوها، فأمر بسجنهما دون أن يسمع كلامهما.
بلغ عيسى عليه السلام خبر اعتقالهما، لكن هذا الخبر لم يثنه عن عزمه ولم يثبط عزيمته في الدعوة إلى التوحيد، فكان يعلم بأن التبليغ لا يتمُّ إلَّابمبالغ طائلة وثمن غالٍ وبشهداء ومعوّقين وأسرى، وينبغي تحمُّل هذه كلها لأجل القيام بهذه المهمَّة، فأمر شخصاً آخر لاستمرار عملية التبليغ، وهو (شمعون الصفا) رئيس الحواريين
بعد دخول شمعون المدينة أدرك ما كان قد أوجده الدين الجديد من ضجيج وصدى، فما رأى المصلحة في التبليغ له بنحو مباشر بل في التقرُّب إلى الملك مستهدفاً النقطة الأساسية للخطر. ولأجل ذلك أوجد تدريجياً علاقة صداقة مع بعض شخصيات البلاط، وباعتبار حسن بيانه وفكره وأخلاقه كسب ثقة البلاط بسرعة، فعرّفوه إلى الملك، وبعد فترة قصيرة استطاع زرع محبته في قلب الملك وازداد شأنه عند الملك شيئاً فشيئاً.
مضت أيام وهو يترصد اليوم والفرصة المناسبة لإنقاذ زملائه وللقيام بعملية تبليغ الدين الجديد. وفي يوم انفتح الكلام عن سجينين يدعيان بولص وبرنابا، فسأل شمعون الملك: ما ذنبهما؟ فحكى الملك قصتهما بالتفصيل، فسأله شمعون: وهل حقَّقت في ذنبهما أم لم تحقق؟
فأجاب الملك: عندما شاهدنا نشاطهما غضبنا عليهما وأودعناهما السجن دون أن نحقِّق في أمرهما.
قال شمعون: كان من الأفضل أن تحقِّق في أمرهما، واسمح لهما حالياً أن يأتيا ليتم التحقيق.
فوافق الملك على ذلك وجيء بهما إلى هناك.
لم يعرّف شمعون نفسه، وباشرهما بالسؤال: لماذا سجنوكما؟ وما جنايتكما؟
قالا: نحن مبعوثا الرسول عيسى عليه السلام امرنا أن ندعو الناس إلى التوحيد.
قال شمعون: وما دليلكما على ما تقولانه؟ وهل لكما معجزة تثبت ذلك؟
قالا: نعم، نعالج المرضى المستصعب علاجهم بإذن اللَّه.
أمر الملك للاتيان بمريض استحال علاجه فعالجاه، ممَّا آثار تعجّب الملك وحواشيه.
فسألهما شمعون: وهل لكما معجزة اخرى؟
قالا: نحيي الموتى بإذن اللَّه، ففعلا ذلك أمام الملك.
عندئذٍ حذّر شمعون الملك من فقدانه التاج والعرش إذا لم يستسلم لمبعوثي عيسى عليه السلام؛ لأن آياتهما صحيحة وتثبت كونهما من مبعوثي رسولٍ بعثه اللَّه.
وبهذه الخطة الدقيقة التي رسمها شمعون أسلم الملك بعدما اتّضحت له الحقيقة، وبعد ما بلغ الناس اعتناق الملك الدين الجديد قدموا أفواجاً أفواجاً معلنين اعتناقهم الدين الجديد.
اعتنقت انطاكية جميعها هذا الدين الجديد إثر مساعي هؤلاء المبلغين الثلاثة، وإثر تحمّلهم
المشاق والمتاعب والسجن والتخطيط الصحيح وتغيير اسلوب الدعوة في الوقت المناسب.
وفقاً لهذا التفسير، فإنَّ الآيات الثمان عشرة لهذا المثل عبارة عن طمئنة وتبشير للأقلية المسلمة المتواجدة في مكة، فهي تخاطبهم: أيها المسلمون الذين تعيشون تحت وطأة الضغط والتعذيب، لا تخافوا قلَّة عددكم، فإنكم ستنتصرون على الأعداء الأكثرية في مكة إذا استقمتم وتحملتم المصاعب وواجهتهم المشاكل والمصائب وخططتم تخطيطاً صحيحاً واستخدمتم الاسلوب الأنجع في الإعلام والتبليغ، رغم كثرة أعدائكم وتفوّقهم عليكم بالكمية.
وفقاً لنقلٍ وحكايةٍ اخرى لهذه القصة، شهدت عليه بعض الآيات حسب الظاهر، فإنَّ رسل عيسى عليه السلام قتلوا بعدما بتّوا بالتبليغ هناك ولم يؤمن الملك ولا الناس بهذا الدين الجديد إلَّا البعض، فابتلوا بعذاب اللَّه، وكان من نوع الصاعقة السماوية، أشارت لها الآية 29 من سورة يس: «إنْ كانَتْ إلَّاصَيْحَةً واحِدَةً فَإذَا هُمْ خامِدُونَ».
وفقاً لهذا التفسير، فإن الآيات المتقدِّمة تهديداً للأكثرية المشركة في مكة، وتخاطبهم: لا تغتروا بكثرتكم، فلا حاجة للكثرة والعدد الكبير لتدميركم، ويكفيكم صيحة اللَّه لتوجد زلزال تحترقون به جميعكم.
إذن، للآيات المزبورة تفسيران، أحدهما: كونها طمئنة للمؤمنين، وثانيهما: كونها تهديداً للمشركين.
وهكذا فإن في كل زمان قد يتعرض المسلمون لنفس المواقف والآية لاتختص بزمن معين وهذا هو أسلوب القرآن الكريم في نقل حوادث الامم السابقة للموعظة والعبرة وأخذ الدروس
المصدر: أمثال القرآن الشیخ ناصر مکارم الشیرازي