شبهة المخالفين حول رؤية الله عزوجل
ليس استدلال المثبتين للرؤية استدلالا علميا ، وإنما يرجع محصل كلامهم إلى إبداء شبهتين هما :
الشبهة الأولى : لو كانت الرؤية ممتنعة لما سألها الكليم ( عليه السلام ) إن الآية دالة على أن موسى ( عليه السلام ) سأل الرؤية ، ولا شك أن موسى ( عليه السلام ) يكون عارفا بما يجب ويجوز ويمتنع على الله تعالى ، فلو كانت الرؤية ممتنعة على الله تعالى لما سألها ، وحيث سألها علمنا أن الرؤية جائزة على الله تعالى ( مفاتيح الغيب ).
والاستدلال بطلب موسى إنما يكون متقنا إذا تبين أنه ( عليه السلام ) طلبها باختيار ومن غير ضغط من قومه ، فعندئذ يصلح للتمسك به ظاهرا ، وأنى للمستدل إثبات ذلك ، مع أن القرائن تشهد على أنه سأل الرؤية على لسان قومه حيث كانوا مصرين على ذلك على وجه يأتي بيانه ، وتوضيحه يتوقف على بيان أمور :
1 - أنه سبحانه ذكر قصة ميقات الكلام وطلب الرؤية أولا.
2 - أنه سبحانه أتبعها بذكر قصة العجل وما دار بين موسى وأخيه وقومه ثانيا ( الأعراف 2).
3 - ثم نقل اختيار موسى من قومه سبعين رجلا لميقاته سبحانه وقال : ( وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِي مَن تَشَاء أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ ) ( الأعراف / 155 ).
والإجابة الحاسمة تتوقف على توضيح أمر آخر وهو : هل كان سؤال موسى الرؤية مستقلا عن طلب القوم الرؤية ، أم لا صلة له بطلبهم ؟ من غير فرق بين القول بوقوع الطلبين في زمان واحد أو زمانين ، بل المهم ، وجود الصلة بين السؤالين وعدمها ، وكون الثاني من توابع السؤال الأول .
والظاهر بل المقطوع به هو الأول ، ويدل على ذلك أمران : الأول : سياق الآيات ليس دليلا قطعيا إن ذهاب موسى بقومه إلى الميقات كان قبل تحقق قصة العجل ، لقوله سبحانه : ( يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاء فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ ) ( النساء / 153 )، فإن تخلل لفظة ثم حاك عن تأخرها عن الذهاب ، ومع ذلك كله فقد جاء ذكر ذهابهم إلى الميقات في سورة الأعراف بعد ذكر قصة العجل ، وهذا لو دل على شيء فإنما يدل على أن السياق ليس دليلا قطعيا لا يجوز مخالفته ، فكما جاز تأخير المتقدم وجودا في مقام البيان فكذلك يجوز تكرار ما جاء في أثناء القصة في آخره لنكتة سنوافيك بها.
فما نقله الرازي عن بعضهم من أنهم خرجوا إلى الميقات ليتوبوا
عن عبادة العجل فقالوا في الميقات : ( أعطنا ما لم تعطه أحدا قبلنا . . . ) (مفاتيح الغيب للرازي:14:139) ليس بشيء ، وقد عرفت تصريح الآية على تقدم سؤالهم الرؤية على عبادته . الثاني : استقلال السؤالين غير معقول إن لاحتمال استقلال السؤالين صورتين :
الأولى : أن يتقدم موسى بسؤال الله الرؤية لنفسه ثم يحدث ما حدث ، من خروره صعقا وإفاقته وإنابته ثم إنه بعدما سار بقومه إلى الميقات سأله قومه أن يري الله لهم جهرة ، فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون .
الثانية : عكس الصورة الأولى ، بأن يسير موسى بقومه إلى الميقات ثم يسألونه رؤية الله جهرة فيحدث ما حدث ثم هو في يوم آخر أو بعد تلك الواقعة يسأل الرؤية لنفسه فيخاطب بقوله : ( لَن تَرَانِي وَلَـكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ ) .
إن العقل يحكم بامتناع كلتا الصورتين عادة حسب الموازين العادية .
أما الأولى ، فلو كان موسى متقدما في السؤال وسمع من الله ما خاطبه به بقوله ( لَن تَرَانِي ) كان عليه أن يذكر قومه بعواقب السؤال ، وأنه سألها ربه ففوجئ بالغشيان ، مع أنه لم يذكرهم بشيء مما جرى عليه
حين طلبهم ، ولو ذكرهم لما سكت عنه الوحي .
أما الثانية : فهو كذلك ، لأنه لو كان قد تقدم سؤال قومه الرؤية وقد شاهد موسى ما شاهد حيث اعتبر عملهم سفهيا فلا يصح في منطق العقل أن يطلب الكليم ذلك لنفسه بعد ذلك مستقلا .
وكل ذلك يؤكد عدم وجود ميقاتين ولا لقائين ولا سؤالين مستقلين ، وإنما كان هناك ميقات واحد ولقاء واحد وسؤالان بينهما ترتب وصلة ، والدافع إلى السؤال الثاني هو نفس الدافع إلى السؤال الأول ، وعندئذ لا يدل سؤال موسى الرؤية على كونها أمرا ممكنا لاندفاعه إلى السؤال من قبل قومه .
وتوضيح ذلك : أن الكليم لما أخبر قومه بأن الله كلمه وقربه وناجاه ، قال قومه : لن نؤمن بك حتى نسمع كلامه كما سمعت ، فاختار منهم سبعين رجلا لميقاته وسأله سبحانه أن يكلمه ، فلما كلم الله وسمع القوم كلامه قالوا : ( لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً ) فعند ذلك أخذتهم الصاعقة بظلمهم ، وإلى هذه الواقعة تشير الآيات التالية :
1 -( وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ ) ( البقرة / 151 ).
2 -( وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ) ( البقرة / 55 ).
3 -( يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاء فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ) ( النساء / 153 )
4 -( وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِي مَن تَشَاء أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ ) ( الأعراف / 155 ).
إلى هذه اللحظة الحساسة لم يتكلم موسى ( عليه السلام ) حول الرؤية ولم ينبس بها ببنت شفة ولم يطلب شيئا ، وإنما طلب منه سبحانه أن يحييهم حتى يدفع عن نفسه اعتراض قومه إذا رجع إليهم ، وهو القائل : ( قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ ) .
فلو كان هناك سؤال فإنما كان بعد هذه المرحلة وبعد إصابة الصاعقة السائلين ، وعودتهم إلى الحياة بدعاء موسى ، وعندئذ نتساءل هل يصح للكليم أن يطلب السؤال لنفسه وقد رأى بأم عينيه ما رأى ؟ كلا ، وكيف يصح له أن يسأله وقد وصف السؤال بالسفاهة ، فلم يبقهناك إلا احتمال آخر ، وهو أنه بعدما عاد قومه إلى الحياة أصروا على موسى وألحوا عليه أن يسأل الرؤية لنفسه لا لهم حتى تحل رؤيته لله مكان رؤيتهم فيؤمنوا به بعد إخباره بالرؤية ، وهذا هو المعقول والمرتقب من قوم موسى الذين عرفوا بالعناد واللجاج ، وبما أن موسى لم يقدم على السؤال إلا بإصرار منهم لكي يسكتهم ، لذلك لم يتوجه إلى الكليم أي تبعة ولا مؤاخذة ، بل خوطب بقوله ( لَن تَرَانِي وَلَـكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي ) .
وللإمام علي بن موسى الرضا ( عليهما السلام ) هنا كلام حول سؤال موسى : قال علي بن محمد بن الجهم : حضرت مجلس المأمون وعنده الرضا علي بن موسى ( عليهما السلام )
فقال له المأمون : يا ابن رسول الله أليس من قولك أن الأنبياء معصومون ؟
قال : بلى
فسأله عن آيات من القرآن ، فكان فيما سأله أن قال له : فما معنى قول الله عز وجل ( وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي ) كيف يجوز أن يكون كليم الله موسى بن عمران ( عليه السلام ) لا يعلم أن الله - تعالى ذكره - لا تجوز عليه الرؤية حتى يسأله هذا السؤال ؟
فقال الرضا ( عليه السلام ) : إن كليم الله موسى بن عمران ( عليه السلام ) علم أن الله تعالى عن أن يرى بالأبصار ، ولكنه لما كلمه الله عز وجل وقر به نجيا ، رجع إلى قومه فأخبرهم أن الله عز وجل كلمه وقربه وناجاه ، فقالوا : لن نؤمن لك حتى نسمع كلامه كما سمعت ، وكان القوم سبعمائة ألف رجل ، فاختار منهم سبعين ألفا ، ثم اختار منهم سبعة آلاف ثم اختار منهم سبعمائة ثم اختار منهم سبعين رجلا لميقات ربه ، فخرج بهم إلى طور سينا ، فأقامهم في سفح الجبل ، وصعد موسى ( عليه السلام ) إلى الطور وسأل الله تبارك وتعالى أن يكلمه ويسمعهم كلامه ، فكلمه الله تعالى ذكره وسمعوا كلامه من فوق وأسفل ويمين وشمال ووراء وأمام ، لأن الله عز وجل أحدثه في الشجرة ، ثم جعله منبعثا منها حتى سمعوه من جميع الوجوه ، فقالوا : لن نؤمن لك بأن هذا الذي سمعناه كلام الله حتى نرى الله جهرة ، فلما قالوا هذا القول العظيم واستكبروا وعتوا بعث الله عز وجل عليهم
صاعقة فأخذتهم بظلمهم فماتوا ، فقال موسى : يا رب ما أقول لبني إسرائيل إذا رجعت إليهم وقالوا : إنك ذهبت بهم فقتلتهم لأنك لم تكن صادقا فيما ادعيت من مناجاة الله إياك ، فأحياهم الله وبعثهم معه ، فقالوا : إنك لو سألت الله أن يريك أن تنظر إليه لأجابك وكنت تخبرنا كيف هو فنعرفه حق معرفته ، فقال موسى ( عليه السلام ) : يا قوم إن الله لا يرى بالأبصار ولا كيفية له ، وإنما يعرف بآياته ويعلم بإعلامه ، فقالوا : لن نؤمن لك حتى تسأله ، فقال موسى ( عليه السلام ) : يا رب إنك قد سمعت مقالة بني إسرائيل وأنت أعلم بصلاحهم ، فأوحى الله جل جلاله إليه : يا موسى اسألني ما سألوك فلن أؤاخذك بجهلهم ، فعند ذلك قال موسى ( عليه السلام ) : ( وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَـكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ ( بآية من آياته ) جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ ( يقول : رجعت إلى معرفتي بك عن جهل قومي ) وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ) منهم بأنك لا ترى . فقال المأمون : لله درك يا أبا الحسن ، والحديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة ( التوحيد للصدوق:121)
وللزمخشري في المقام تفسير رائع قال : ما كان طلب الرؤية إلا ليبكت هؤلاء الذين دعاهم سفهاء وضلالا وتبرأ من فعلهم ، وذلك أنهم حين طلبوا الرؤية أنكر عليهم وأعلمهم الخطأ ونبههم على الحق فلجوا وتمادوا في لجاجهم ، وقالوا لا بد ، ولن نؤمن حتى نرى الله جهرة ، فأراد
أن يسمعوا النص من عند الله باستحالة ذلك وهو قوله : ( لَن تَرَانِي ) ليتيقنوا وينزاح عنهم ما دخلهم من الشبهة ، فلذلك قال : ( رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ) .
وعلى كل تقدير فما ذكره صاحب الكشاف قريب مما ذكرناه ، وكلا البيانين يشتركان في أن السؤال لم يكن بدافع من نفس موسى ، بل بضغط من قومه .
ولكن الرازي ناقش في هذه المقالة وقال : ظاهر الحال يقتضي أن تكون هذه القصة مغايرة للقصة المتقدمة ، لأن الأليق بالفصاحة إتمام الكلام في القصة الأولى في وضع واحد ثم الإنتقال منها بعد تمامها إلى غيرها ، فأما ذكر بعض القصة ( سؤال موسى الرؤية ) ثم الإنتقال منها إلى قصة أخرى ( اتخاذ العجل ربا ) ثم الإنتقال منها بعد تمامها إلى بقية الكلام في القصة الأولى ( سؤال قوم موسى ) يوجب نوعا من الخبط والاضطراب ، والأولى صون كلام الله تعالى عنه .
والجواب : أنه سبحانه أخذ ببيان قصة مواعدة موسى ثلاثين ليلة من آية 241 وختمها في الآية 551 ، فالمجموع قصة واحدة كسبيكة واحدة ، ولكن سبب العود إلى ما ذكر في أثناء القصة في آخرها هو إبراز العناية بسؤال الرؤية باعتباره مسألة مهمة في حياة بني إسرائيل .
فقد اتضح مما ذكرنا عدم دلالة الآية على إمكان رؤيته سبحانه بطلب موسى عليه السلام .
المصدر : شبكة الشيعة العالمية