قصة سيدنا الخضر عليه السلام
قال: في حديث عن رسول الله (ص) أنّه قال: إن موسى (ع) قام خطيبًا في بني إسرائيل، فسأل أي الناس أعلم؟ قال: أنا.
فعتب الله عزوجل عليه إذ لم يرد العلم إليه: إن لي عبدًا بمجمع البحرين هو أعلم منك.
قال موسى: يا رب كيف لي به؟
قال: (تأخذ معك حوتًا...) الخ الرواية حيث أرشد تعالى نبيه موسى للوصول إلى الرجل العالم.
إن مفاد هذه الواقعة هو تحذير لموسى (ع) حتى لا يعتبر نفسه -برغم علمه ومعرفته- أفضل الأشخاص.
إن قصة موسى والخضر لها أبعاد عجيبة أخرى. ففي القصة يواجهنا مشهد عجيب نرى فيه نبيّا من أولي العزم بكل وعيه ومكانته في زمانه يعيش محدودية في علمه ومعرفته من بعض النواحي، وهو لذلك يذهب إلى معلّم (هو عالم زمانه) ليدرس ويتعلم على يديه،ونرى إن المعلم يقوم بتعليمه دروسًا يكون الواحد منها أعجب من الآخر. ثم إنّ هذه القصة تنطوي على ملاحظات مهمة جدا.
موسى باحثًا عن الخضر:
إن موسى (ع) كان يبحث عن شيء مهم وقد أقام عزمه ورسّخ تصميمه للعثور على مقصوده وعدم التهاون إطلاقًا.
إن الشيء الذي كان موسى (ع) مأمورا بالبحث عنه لهُ أثرٌ كبير في مستقبله، وبالعثور عليه سوف يفتتح فصلُ جديدٌ في حياته.
نعم، إنه (ع) كان يبحث عن عالم يزيل الحجب من أمام عينيه ويُريه حقائق جديدة،ويفتح أبواب العلوم أمامه،وسنعرف سريعًا إن موسى (ع) كان يملك علامة للعثور على محل هذا العالم الكبير وكان (ع) يتحرك باتجاه تلك العلامة، يقول القرآن الكريم في هذا المجال: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًًا﴾.
المعنى من (فتاه) هو يوشع بن نون،الرجل الشجاع الرشيد المؤمن من بني إسرائيل (ومجمع البحرين) بمعنى محل التقاء البحرين، وهناك كلام عن اسم هذين البحرين ولكن بشكل عام يمكن إجمال الحديث بثلاثة احتمالات والأقرب منها:
أن المقصود بمجمع البحرين هو محل اتصال (خليج العقبة) مع (خليج السويس) (إذ المعروف أنّ البحر الأحمر يتفرع شمالاً إلى فرعين فرع نحو الشمال الشرقي حيث يشكل خليج العقبة، والثاني نحو الشمال الغربي ويسمى خليج السويس، وهذان الخليجان يرتبطان جنوبًا ويتصلان بالبحر الأحمر).
وهذا هو الأقرب من حيث قربه إلى مكان موسى (ع) وما يرجح هذا الرأي هو ما نستفيده من القرآن –بشكل عام- من أنّ موسى (ع) لم يسلك طريقًا طويلاً بالرغم من أنّه كان مستعدًا للسفر إلى أي مكان لأجل الوصول إلى مقصوده.
سنوات بحثًا عن الخضر:
كلمه (حقب) في كلام موسى (ع) تعني المدة الطويلة والتي فسّرها البعض بثمانين عامًا،وغرض موسى (ع) من هذه الكلمة،هو أنني سوف لا أترك الجهد والمحاولة للعثور على ما ضيعته ولو أدّى ذلك إن أسير عدّة سنين ﴿فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا﴾ (1) أي ألسمكة التي كانت معهما،أمّا العجيب في الأمر ﴿فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا﴾ وهناك كلام كثير عن نوعيه السمك الذي كان معدًا للغذاء ظاهرًا هل كانت سمكة مشوية،أو مملحة أو سمكة طازجة حيث بحثت فيها الحياة بشكل أعجازي وقفزت إلى الماء وغاصت فيه.
في بعض كتب التفسير نرى أنّ هًناك حديثًا عن عينٍ تهب الحياة، وأنّ السمكة عندما أصابها مقدار من تلك العين عادت للحياة.
وهناك احتمال آخر وهو أن السمكة كانت حيّه، بمعنى أنها لم تكن قد ماتت بالكامل، حيث يوجد بعض أنواع السمك يبقى على قيد الحياة فتره بعد إخراجه من الماء، ويعود إلى الحياة الكاملة إذا أعيد في هذه الفترة إلى الماء.
وفي تتمة القصة،نقرأ أنّ موسى وصاحبه بعد أن جاوزا مجمع البحرين شعرا بالجوع،وفي هذه الأثناء تذكر موسى(ع) أنّه قد جلب معهُ طعامًا،وعند ذلك قال لصاحبه ﴿فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا * قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا﴾ (2).
ولأن هذا الحادث والموضوع -بشكل عام- كان علامة لموسى(ع) لكي يصل من خلاله إلى موقع (العالم) الذي خرج يبحث عنهُ لذا ﴿قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ﴾.
وهنا رجعا في نفس الطريق: ﴿فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا﴾ (3)
لقاء المعلم الكبير:
عندما رجع موسى (ع) وصاحبه إلى المكان الأول، أي قرب الصخرة وقرب (مجمع البحرين) فجأة: {فوجدا عبدًا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علمًا} في هذه الأثناء قال موسى للرجل العالم وبأدب كبير: ﴿هل اتبعك على أن تعلمين مما علمت رُشدًا﴾.
في معرض الجواب نرى أنّ الرجل العالم مع كامل العجب لموسى(ع) ﴿قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا﴾ (4).
ثم بيّن ذلك مباشره وقال ﴿وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا﴾ (5).
وكما سنرى فيما بعد، فأن هذا الرجل العالم كان يحيط بأبواب من العلوم التي تخص أسرار وبواطن الأحداث، في حين أنّ موسى (ع) لم يكن مأمورًا بمعرفة البواطن،وبالتالي لم يكن يعرف عنها الكثير، وفي مثل هذه الموارد يحدث كثيرا أن يكون ظاهر الحوادث يختلف عن باطنها، فقد يكون الظاهر قبيحًا أو غير هادف في حين أنّ الباطن مفيد ومقدّس وهادف لأقصى غاية.
في مثل هذه الحالة يفقد الشخص الذي ينظر إلى الظاهر صبره وتماسكه فيقوم بالاعتراض وحتى بالتشاجر.
ولكن الأستاذ العالم والخبير بالأسرار بقي ينظر إلى بواطن الأعمال، واستمر بعمله ببرود، ولم يعر أي أهميه إلى اعتراضات موسى وصيحاته، بل كان في انتظار الفرصة المناسبة ليكشف عن حقيقة الأمر، إلا أنّ التلميذ كان مستمرًا في الإلحاح، ولكّنه ندم حين توضحت وانكشفت له الأسرار.
وقد يكون موسى(ع) أضطرب عندما سمع هذا الكلام وخشي إن يُحرم من فيض هذا العالم الكبير، لذا فقد تعهد بأن يصبر على جميع الحوادث و﴿قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا﴾ (6)
مرة أخرى كشق موسى(ع) عن قمة أدبه في هذه العبارة،فقد أعتمد على خالقه حين لم يقل للرجل العالم: إني صابر، بل قال: إن شاء الله ستجدني صابرًا.
ولأن الصبر على الحوادث غريبة وسيئة في الظاهر والتي لا يعرف الإنسان أسرارها، ليس بالأمر الهيّن، لذا فقد طلب الرجل العالم من موسى(ع) أن يتعهد له مره أخرى وحذره ﴿قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا﴾ (7)، وقد أعطى موسى العهد مجددا وأنطلق مع العالم الأستاذ.
المعلم الإلهي والأفعال المتكررة!!
نعم، لقد ذهب موسى وصاحبه وركبا السفينة: ﴿فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ﴾عندما ركبا السفينة قام العالم بثقبها (خرقها).
وبحكم كون موسى(ع) نبيّا إلهيًا كبيرًا فقد كان من جانب يرى أن من واجبه الحفاظ على أرواح وأموال الناس، أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ومن جانب آخر كان وجدانه الإنساني يضغط عليه ولا يدعه يسكت أمام أعمال الرجل العالم التي يبدو ظاهرها سيئًا قبيحًا، لذا فقد نسي العهد الذي قطعه للخضر (العالم) فاعترض و ﴿قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا﴾ وحقًا، لقد كان ظاهر عمل الرجل العالم عجيبًا وسيئًا للغاية،فهل هناك عمل أخطر من أن يثقب شخص سفينة تحمل عددًا من المسافرين!!
وفي بعض الروايات تقرأ أنّ أهل السفينة انتبهوا إلى الخطر بسرعة وقاموا بتصليح الخرق مؤقتا ولكن السفينة أصبحت بعد ذلك معيبة وغير سالمه.
وفي هذه الأثناء نظر الرجل العالم إلى موسى(ع) نظرة خاصة وخاطبه: ﴿قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا﴾.
أمّا موسى الذي ندم على استعجاله،بسبب أهميه الحادثة،فقد تذكّر عهده الذي قطعه لهذا العالم الأستاذ،لذا فقد التفت إليه قائلا:ً ﴿قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا﴾ يعني لقد أخطئت ونسيت الوعد فلا تؤاخذني بهذا الاشتباه.
أقتلت نفسًا زكيّة؟؟
لقد انتهت سفرتهم البحرية، وترجلوا من السفينة: {فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ} وقد تمّ ذلك بدون أي مقدمات!!
وهنا ثار موسى(ع) مره ًاخرى حيث لم يستطيع السكوت على قتل طفل بريء بدون أي سبب وظهرت آثار الغضب على وجهه وملأ الحزن وعدم الرضا عينيه ونسي وعده مره أُخرى، فقام للاعتراض،وكان اعتراضه هذه المرة أشد من أعتراضة في المرة الأولى،لأن الحادثة هذه المرة كانت موحشة أكثر من الأولى،فقال: ﴿أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ﴾ أي إنك قتلت إنسانا بريئًا من دون أن يرتكب جريمة قتل ﴿لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا﴾.
ومره أخرى كّرر العالم الكبير جملته السابقة التي اتسمت ببرود خاص،حيث قال لموسى ﴿قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا﴾
تذكر موسى تعهده فانتبه إلى ذلك وهو خجل، حيث أخل بالعهد مرتين – ولو بسبب النسيان – وبدء تدريجيًا يشعر بصدق عبارة الأستاذ في أنّ موسى لايستطيع تحمل أعماله،لذا فلا يطيق رفقته كما قال له قال عندما عرض عليه موسى ألرفقه،لذا فقد بادر إلى الاعتذار وقال: إذا اعترضت عليك مرّه أخرى فلا تصاحبني وأنت في حلٍ منّي: ﴿إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرًا﴾ صيغه العذر هنا تدل على إنصاف موسى(ع) ورؤيته البعيدة للأمور، وتبين أنّه (ع) كان يستسلم للحقائق ولو كانت مرّه، بعبارة أخرى: إن الجملة توضح وبعد ثلاث مراحل للاختبار أن مهمة هذين الرجلين كانت مختلفة.
لو شئت لاتخذت عليه أجرًا:
بعد هذا الكلام والعهد الجديد ﴿فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا﴾ لاريب، إنّ موسى وصاحبه لم يكونا ممن يلقى بكلّه على الناس ولكن يتّضح أنّ زادهم وأموالهم قد نفذت في تلك السفرة، لذا فقد رغبا أن يضيفهما أهل تلك المدينة (ويحتمل أنّ الرجل العالم تعمد طرح هذا الاقتراح كي يعطي موسى درسًا بليغًا آخر).
وذكر المفسرون نقلاً عن ابن عباس أنّ المقصود بهذه المدينة هو (أنطاكية).
وذكر آخرون: إن المقصود منها هو مدينه (أيله) التي تسمي اليوم ميناء (أيلات) المعروف الذي يقع على البحر الأحمر قرب خليج العقبة. أما البعض الثالث فيرى بأنها مدينه (ألناصره) الواقعة شمال فلسطين،وهي محل ولادة السيد المسيح وقد نقل العلامة الطبرسي حديثًا عن الأمام الصادق(ع) يدعم صحة هذا الاحتمال.
ورجوعًا إلى ماقلناه في المقصود من (مجمع البحرين) إذ قلنا: إنه كنايه عن محل التقاء خليج العقبة وخليج السويس،يتضح أن مدينه (ألناصره) أو ميناء (أيله) أقرب إلى هذا المكان من أنطاكية.
المهم في الأمر،أننا نستنتج من خلال ماجرى لموسى(ع) وصاحبه من أهل هذه المدينة أنهم كانوا لئامًا دنيئين الهمة،لذا نقرأ في رواية عن رسول الله (ص) قوله في وصف أهل هذه المدينة (كانوا أهل قرية لئام).
ثم يضيف القرآن ﴿فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ﴾ وقد كان موسى(ع) يشعر بالتعب والجوع،والأهم من ذلك أنة كان يشعر بأن كرامته وكرامه أستاذة قد أهينت من أهل هذه القرية التي أبت أن تضيفهما،ومن جانب آخر شاهد كيف أنّ الخضر قام بترميم الجدار بالرغم من سلوك أهل القرية القبيح إزاءهما، وكأنّه بذلك أراد أن يجازي أهل القرية بفعالهم السيئة، وكان موسى يعتقد بأن على صاحبه أن يُطالب بالأجر على هذا العمل حتى يستطيعا أن يُعدا طعامًا لهما.
لذا فقد نسي موسى (ع) عهدة مره أخرى وبدأ بالاعتراض، إلا أن اعتراضه هذه المرة بدا خفيفًا فقال ﴿قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا﴾.
وفي الواقع فإن موسى يعتقد بأن قيام الإنسان بالتضحية في سبيل أناس سيئين عمل مجافٍ لروح العدالة، بعبارة أخرى إن الجميل جيد وحسن بشرط أن يكون في محلّه.
صحيح أن الجزاء الجميل في مقابل العمل القبيح هو من صفات الناس الإلهيين إلا إن ذلك لا ينبغي أن يكون سببًا في دفع المسيئين للقيام بالمزيد من الإعمال السيئة.
أصعب مرحله في حياة موسى:
وهنا قال الرجل العالم كلامه الأخير لموسى، بأنك ومن خلال الحوادث المختلفة لا تستطيع معي صبرًا، لذلك قررّ العالم قراره الأخير ﴿قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا﴾.
موسى(ع) لم يعترض على القرار –طبعًا- لأّنه هو الذي كان قد اقترحه عند وقوع الحادثة السابقة، وهكذا ثبت لموسى أنّه لا يستطيع الاستمرار مع هذا الرجل العالم. ولكن برغم كل ذلك،فإن خبر الفراق قد نزل بوقع شديد على قلب موسى (ع) إذ يعني فراق أستاذٍ قلبه مملوء بالأسرار،ومفارقه صُحبه مليئة بالبركة،إذ كان كلام الأستاذ درسًا، وتعامله يتسم بالإلهام، نور الله يشع من جبينه، وقلبه مخزن للعلم الإلهي.
إن مفارقه رجل بهذه الخصائص أمر صعب للغاية، لكن على موسى (ع) أن ينصاع لهذه الحقيقة المرة.
ورد في الخبر، أنّ موسى(ع) عندما سئُل عن أصعب ما لاقى من مشكلات طول حياته،أجاب قائلاً: لقد واجهت الكثير من المشاكل والصعوبات (إشارة إلى ما لاقاه (ع) من فرعون،وما عاناه من بني إسرائيل) ولكن لم يكن أيًّا منها أصعب وأكثر ألمًا على قلبي من قرار الخضر في فراقي إيّاه.
الأسرار الداخلية لهذه الحوادث:
بعد أن أصبح الفراق بين موسى والخضر (ع) أمرًا حتميًا، كان من اللازم أن يقوم الأستاذ الإلهي بتوضيح أسرار أعماله التي لم يستطيع موسى أن يصبر عليها،وفي الواقع أن استفادة موسى من صُحبته تتمثل في معرفة أسرار هذه الحوادث الثلاثة العجيبة،والتي يمكن أن تكون مفتاحًا للعديد من المسائل وجوابًا لكثير من الأسئلة.
ففي البداية ذكر قصة السفينة وقال: ﴿أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا﴾.
وبهذا الترتيب كان ثمة هدف خيّر وراء ثقب السفينة الذي بدأ في حينه عملاً مشينًا سيئًا،والهدف هو نجاتهم من قبضة ملك غاصب،وكان هذا الملك يترك السفينة المعيبة ويصرف النظر عنها إذًا خلاصة المقصود في الحادثة الأولى هو حفظ مصالح مجموعه من المساكين.
بعد ذلك ينتقل العالم إلى بيان سر الحادثة الثانية التي قتل فيها الفتى فيقول: ﴿وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا﴾.
إنّ الرجل العالم قام بقتل هذا الفتى، واعتبر سبب ذلك ماسوف يقع لأب والأم المؤمنين في حال بقاء الابن على قيد لحياه. ثم أضاف قوله ﴿فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا﴾.
في النهاية كشف الرجل العالم عن السر الثالث الذي دعاه إلى بناء الجدار فقال: ﴿وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ﴾.
وأنا كُنت مأمورًا ببناء هذا الجدار بسبب جميل وإحسان أبوي هذين اليتيمين كي لا يسقط وينكشف الكنز ويكون معرضًا للخطر.
وفي خاتمه الحديث ولأجل أن تنتفي أي شبهه محتمله،أو شك لدى موسى(ع) ولكي يكون على يقين بأن هذه الأعمال كانت طبقًا لمخطط وتوجيه أعلى خاص، قال العالم: ﴿وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي﴾ بل بأمرٍ من الله. وذلك سر مالم يستطيع موسى(ع) صبرًا إذا قال: ﴿ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا﴾.
من هو الخضر!!
القرآن الكريم يتحدث عن العالم من دون أن يسميه بالخضر وقد عبّر عن معلّم موسى(ع) بقوله: ﴿عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا﴾، والآية توضح المقام الخاص للعبودية والعلم والمعرفة،لذا فإننا غالبًا ما نصفه بالرجل العالم.
أمّا الروايات الإسلامية وفي مختلف مصادرها عرفّت هذا الرجل باسم (الخضر) ومن بعض الروايات نستفيد بأن أسمه الحقيقي كان (بليا بن ملكان) أما الخضر فهو لقب له، حيث أنّهُ أينما كان يطأ الأرض فأن الأرض كانت تخضر تحت قدميه.
البعض أحتمل أن هذا الرجل العالم هو (إلياس) ومن هنا ظهرت فكره أن إلياس والخضر هما أسمان لشخصٍ واحد، ولكن المعروف والمشهور بين المفسرين والرواة هو الأول
وطبيعي أن نقول: إن اسم الرجل العالم أيًّا كان فهو غير مهم لا لمضمون القصة ولا لقصدها،إذ المهم أن نعرف أنّه كان عالمًا إلهيًا،شملته الرحمة الألهيه الخاصة،وكان مكلفًا بالباطن والنظام التكويني للعالم،ويعرف بعض الأسرار،وكان معالم موسى ابن عمران بالرغم من إن موسى (ع) كان أفضل منه من بعض الجوانب.
وهناك أيضًا أراء وروايات مختلفة فيما إذا كان الخضر نبيّا أم لا؟
ففي المجلد الأول من أصول الكافي وردت روايات عديدة تدل على إن هذا الرجل لم يكن نبيًّا بل كان عالمًا مثل(ذو القرنين) و (آصف بن برخيا).
في حين نستفيد من روايات أخرى أنّه كان نبيًّا، وظاهر بعض الآيات أعلاه يدل على هذا المعنى، لأنها تقول على لسانه: (وما فعلته من أمري) وفي مكان أخر قوله: ﴿فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ﴾.
ونستفيد من الروايات أن الخضر عمّر طويلاً.
الأساطير الموضوعة:
إنّ الأساس في قصة موسى والخضر(ع) هو ما ذكر في القرآن، ولكن مع الآسف هناك أساطير كثيرة قيلت حول القصة وحول رمزيها (موسى والخضر) حتى أنّ بعض الإضافات تعطي للقصة طابعًا خرافيًا. وينبغي أن نعرف أنّ مصير كثير من القصص لم يختلف عن مصير هذه القصة، إذ لم تنج قصه من الوضع والتحريف والتقوّل.
مقياسنا في واقعية القصة هو أن نضع القرآن كمعيار أمامنا،وحتى بالنسبة للأحاديث فإننا نقبلها في حال كونها مطابقة للقرآن، فإذا كان هناك حديث لا يطابق فسنرفضه حتمًا ومن حسن الحظ لم يرد في الأحاديث حديث معتبر.
علم موسى والخضر مقابل علم الله:
روي أن النبي(ص) قال: لما لقي موسى الخضر، جاء طير فألقى منقاره في الماء
فقال الخضر لموسى: تدري ما يقول هذا الطائر؟
قال: وما يقول؟
قال: (يقول ما علمك وعلم موسى في علم الله إلاّ كما أخذ منقاري من الماء)
ماذا عن الكنز؟
من الاسئلة تثار حول هذه القصة،هي عن ماهية الكنز وما كان؟ ولماذا كان صاحب موسى يصر على إخفائه؟ ولماذا قام الرجل المؤمن،يعني أبا الأيتام بتجميع هذا الكنز وأخفائة؟
يرى بعض أن الكنز يرمز إلى شيء معنوي، قبل أن يكون له مفهوم مادي.
إذ أنّ هذا الكنز-طبقًا لروايات عديدة تنقل من طرق ألسنه والشيعة- لم يكن سوى لوح منقوش عليه مجموعه من الحكم.
أمّا ماهية هذه الحكم؟ فثمة كلام كثير في ذلك:
ففي كتاب الكافي نقلاً عن الإمام حيث قال في جوابه على سؤال يتعلق بماهية الكنز: (أمّا إنّه ما كان ذهبًا ولا فضه، وإنما كان أربع كلمات: لا إله إلا الله، من أيقن بالموت لم يضحك، ومن أيقن بالحساب لم يفرح قلبه، ومن أيقن بالقدر لم يخش إلا الله)
وفي روايات أخرى، ورد أن اللوح من ذهب.
المصدر:
قصص القرآن / لآية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
1-سورة الكهف الآية61
2-سورة الكهف، الآية 62/63
3-الكهف الآية 64
4-سورة الكهف67
5-سورة الكهف 68
6-سورة الكهف 69
7-سورة الكهف70