الإنفاقُ مع المنِّ والأذى
يقول الله تعالى في الآية 264 من سورة البقرة: ( يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالمَنِّ والأذَى كَالّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِر فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَان عَلَيْهِ تُرَابٌ فأصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لاَ يَقْدِرُونَ عَلى شَيء مِمّا كَسَبُوا وَاللهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الكَافِرِيْنَ ) .
المثلان الخامس والسادس كلاهما حول الإنفاق لكنهما غير مكررين، بل إنَّ المثل الخامس حكى فضل الإنفاق وقيمته، أمّا في المثل السادس فالحديث عن الإنفاق ذات الصبغة السلبية وأنَّ
المؤمنين لا ينبغي أنْ يبطلوا صدقاتهم وإنفاقهم بالمنّ وأذى الآخرين.
الشرح والتفسير
الآية بدأت حديثها بخطاب المؤمنين، ومعنى ذلك أنَّ ما ورد في الآية من أوامر فهي خاصة بالمؤمنين، وشرطها الأول هو الإيمان وأن الذي خرج مصداقاً عن هذه الآية وكان غير عامل بها فهو ليس بمؤمن.
عبارة(لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالمَنِّ والأذَى)
تفيد أنَّ شيئين يبطلان الصدقة، الأول: المنّ، والثاني: إيصال الاذى للآخرين; وذلك لأنَّه قد لوحظ أنَّ البعض يتصدق على آخرين لكن صدقته تتزامن مع أذى إلى آخر العمر، بأن يقول له: (لولاي لكنت محتاراً وما كان لك شأن واعتبار) أو (خذ هذا المبلغ ولا تريني وجهك بعد ذلك). ليس المنّ والاذى هما الوحيدان اللذان يبطلان الصدقة، بل قطع كلام الفقير الذي يريد حكاية حاله ومشاكله أيضاً أمر غير صحيح ومرفوض.
جاء في رواية: «
لا تقطعوا على السائل مسألته، فلولا أنَّ المساكين يكذبون ما أفلح من ردهم (1)
لا بأس هنا ان نبتّ بتوضيح مفردة (المنّ). إنَّ أصل هذه المفردة هو (مَن) وهو وزن خاص، وقد استخدمت هذه المفردة للاشارة إلى المعنى المراد في الآية; لأجل أنَّ الشخص المانَّ يحمِّل الممنون عليه عبئاً وثقلا يشعر به.
من جانب آخر، فإنَّ انعام الشخص على آخر يقال له (منّ) وهو على قسمين:
- الأول: المنّ العملي بأنْ ينعم شخص عملياً على شخص اخر، وهذا أمر مستحسن.
- الثاني: المنّ الادعائي بان ينعم شخص على اخر بالقول دون العمل، فهو عملياً لم ينعم عليه أبداً. وقد استخدمت هذه المادة في القرآن المجيد عشرين مرة.
من موارد استخدام هذه المادة هو ما جاء في الآية 17 من سورة الحجرات:
يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أنْ أسْلَمُوا قُلْ لاَ تَمُنُّوا عَلَىَّ إسْلاَمَكُم بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُم أنْ هَدَاكُم للإيمَانِ )
فالمنُّ الاول في الآية هو منٌّ إدعائي، وذلك لأنّ الاعراب لم يمنوا على النبي بأي نعمة. فإنَّ المريض إذا جاء طبيباً وطلب منه الدواء فكتب الطبيب الدواء له وشفى من جرّاء استخدام هذا الدواء، فهل هذا يعني انعام المريض ومنه على الطبيب؟ !
أمّا المنُّ الثاني في الآية فهو مَنٌّ عَمَلَيٌ; وَذلك لأنّ الله أنعم عليهم نعمة الإسلام، فَمَنَّ عليهم بهذا العطاء.
وعلى هذا، فالمَنّ الصادر من الله يعني البذل والعطاء أو المنّ العملي، أمّا المنّ الصادر من الإنسان فيحتمل كلا المعنيين العملي والإدعائي. والمنّ الأول في الآية هو منّ ادعائي وقولي.
ثم تمثل الآية هؤلاء الاشخاص بقطعة من الحجر وتقول
... كالّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ باللهِ واليَومِ الآخر فَمَثَلهُ كَمَثَلِ صَفْوَان عَلَيْهِ تُرَابٌ فأصَابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لاَ يَقْدِرُونَ عَلى شَيء مِمَّا كَسَبُوا...
فالذي ينفق مع منّ واذى (كالكافر المرائي) انفاقه غير مقبول عند الله; لأنَّ الإيمان هو شرط القبول، ومثل هذين (أي المان والمؤذي من جهة والكافر المرائي من جهة اخرى) كمثل صفوان، أي قطعة من الحجر تراكمت عليها طبقة من التراب بحيث تبدو صالحة للزراعة، فاذا بوابل (مطر) يصيبها ليكشف عن واقعها الصلد المتحجر وعدم صلاحيتها للزراعة، فيجدون أنفسهم ( لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيء ) فذهبت مساعيهم هباءً; لأنَّ عَملهم لم يكن عن علم ومعرفة بل كان بناءً على النظر إلى الظاهر لا الباطن والعمق.
الغيث نعمة يمكنه أنْ يروي المزارع وينمي البذور، كما يمكنه ان يدمر الزرع. كذلك سائر آيات الله فهي تفيد المؤمنين والصالحين من بركاتها، كما تفضح وتضل الكافرين والمنافقين.
إنَّ كلفة وزحمة المزارع الذي يزرع بذور الاخلاص والمزارع الذي يزرع بذور الرياء واحدة لكنَّ حاصل الزرعين ليس واحداً، فاحدهما يحصل على سبعمائة ضعف والآخر قد لا يحصل على أدنى شيء بل يفقد كل ما كان لديه
خطابات الآية
خطابات القرآن المجيد غالباً ما تكون عامة
يا أيُّها النَّاس) و(يا بَنِي آدَمَ) و (يا أيُّها الإنْسَانُ) و (يَا أيُّها الَّذِين آمَنُوا) وهذا يعني تعميم خطابات القرآن لجميع البشر مهما كان جنسهم ومهما كانت قوميتهم، ولذلك لا نجد في خطاباته عبارات من قبيل: (يا أيُّهَا العَرَبُ) أو (يا قريش) وما شابه ذلك.
هذه الخطابات تتضمن نقطة ظريفة وهي عولمة الدين الاسلامي، أي ان الإسلام دين لا يختص بقوم أو بلد أو قبيلة أو جنس بل هو للجميع أينما وجدوا.
إنَّ الرياء والتظاهر عمل لا أساس له ولا تواصل، والمترائي والمتظاهر يحكم عليه بالفضيحة; وذلك لأنَّ كلّ وقت يحتمل أنْ طروّ ظاهرة تكشف عن وجه الحقيقة، كما كشف الوابل في الآية عن حقيقة الصخرة المتحجرة.
إنَّ الذين ينفقون مع المنِّ والأذى كالحجارة وقلوبهم بشدة الحجارة. وما يلفت الانتباه هنا هو أنَّ المطر اللطيف يكشف عن قسوة قلوب هؤلاء وطبيعتهم. إنَّ الغيث يروي البذرة لتنمو، لكن دوره هنا هو تدمير هذه البذرة. إنَّ الغيث من الآيات الالهية تنفذ في قلب المترائي فتغسل فيه طبقة الرياء وتكشف عن صلابة القلب، ليفتضح صاحبه.
إنّ المترائين والمنفقين، الذين يمنون، لا يحصلون على ثمرة من جرّاء عملهم هذا، كما هو الحال بالنسبة للمزارع الذي ينثر البذور في الارض الصلبة فانه يفقد بذوره كما تذهب مساعيه هباء، وفي النهاية لا يحصل على أي ثمرة، كذا المنفق مع الرياء فهو لا يحصل على أي ثواب كما يفقد المال المنفق.
بناء على التفكير الفلسفي لاكثر المدارس، وبناء على ما يعتقده عامة الناس، فإنَّ المال شيء ثمين، والغنى يُعدُّ من القيم. وحسب ما يرى الإسلام - مع الاخذ بنظر الاعتبار اهمية المال ودوره في الحياة الدنيا - فإنَّ مفاهيم مثل الايمان والايثار والشهادة و.. لها قيمة اكبر من المال. ومن جملة تلك القيم التي يعتقد بها الإسلام هي احترام الانسانية وحفظ حرمة المؤمن وكرامته.
وعلى هذا، هل يمكن عدُّ عمل الشخص، الذي يمنح مبلغاً لمسكين أمام أعين الناس ويُذهب بذلك اعتباره وماء وجهه، صدقة أو انفاقاً؟ وهل من الصحيح أنْ يتوقع هذا الشخص الأجر والثواب من الله؟
من المؤسف أنَّ نظام القيم للمذاهب المادية هو المال، ومظهره الراهن هو الدولار، وهو بامكانه ان يبرر كل شيء حتى الجرائم التي ترتكب في حق الإنسانية.
من تلك الجرائم هو مبايعة الإنسان وبخاصة البنات والبنين الصغار، فإنَّ دلالي البشر يقومون بشراء البنات والبنين من الدول الفقيرة وبخاصة الشرقية بأبخس قيمة ثم يبيعونهم في الدول الغربية المدافعة عن حقوق البشر بمبالغ باهضة. وقد يساء استخدام هؤلاء الاطفال بقطع أعضائهم وزرعها في أجسام بعض المتمولين في العالم الغربي، كما قد يستخدمون لأغراض جنسية وتجارية
ومن جملة اجراءات الغربيين التي بررتها دولاراتهم هي (الديمقراطية) التي تشكل البنية الاساس لدعوى حقوق البشر عندهم، فقد تم المعاملة على هذه القضية بالدولارات. ومثل ذلك هو أصوات الشعب الجزائري المظلوم حيث أبطلت وبتوا علاوة على ذلك بسلسلة من اجراءات تعسفية ومجازر جماعية، لكنّ مدعيي حقوق البشر في الجزائر عمي وصم وبكم، فلا سمعوا بهذه المجازر ولا رأوا صورها ولا غير ذلك.
إنَّ ذلك في الحقيقة من الاثار القيمة للدولار; وذلك لأنَّ هذه الحوادث تؤمّن مصالحهم، بل انفسهم مباشرة أو بشكل غير مباشر يقومون بهذه الاجراءات; حفظاً لمصالحهم.
هذا الامر لا ينحصر في الجزائر بل الامر عام في العالم أجمع، فإنَّ أي حكومة في العالم تؤمن مصالحهم ولا تحول دون زيادة مواردهم تعد حكومة جيدة مهما كانت قبلية أو بدوية أو لا يلحظ فيها أي دور لآراء الناس، بينما الحكومة التي تعرض مصالحهم واموالهم للخطر فهي حكومة غير انسانية ومخالفة لحقوق البشر ولو كانت تحضى بمعالم انسانية عالية وتدار بواسطة نظام سياسي متقدم.
إنَّ الأمر في الإسلام يختلف، فنظام القيم فيه يبتني على قيم من قبيل الايمان والكمال الانساني وكرامة الإنسان واعتباره وشرفه وحيثيته الرفيعة.
سيرة الأئمة في الإنفاق والبذل
إنَّ طريقة بذل الائمة وكيفيتها من الحكايات التي يُعتبر ويُتعلم منها الدروس. ينقل العلامة المجلسي عند ذكر سيرة الإمام
الحسن المجتبى(عليه السلام) الحكاية الجميلة التالية التي ملؤها العبر والدروس:
«خرج الحسن
والحسين(عليهما السلام) وعبد الله بن جعفر (زوج زينب(عليها السلام)) حجاجاً ففاتهم اثقالهم، فجاعوا وعطشوا فمروا بعجوز في خباء لها فقالوا: هل من شراب؟ فقالت: نعم فاناخوا بها وليس الا شويهة في كسر الخيمة، فقالت: احلبوها وامتذقوا لبنها، ففعلوا ذلك وقالوا لها: هل من طعام؟ قالت: لا إلاَّ هذه الشاة، فليذبحنّها احدكم حتى اهيئ لكم شيئاً تأكلون. فقام اليها أحدهم فذبحها وكشطها ثم هيأت لهم طعاماً فأكلوا ثم اقاموا حتى ابردوا فلما ارتحلوا قالوا لها: نحن نفر من قريش نريد هذا الوجه، فاذا رجعنا سالمين فالمي بنا فانا صانعون اليك خيراً، ثم ارتحلوا.
واقبل زوجها واخبرته عن القوم والشاة، فغضب الرجل وقال: ويحك تذبحين شاتي لاقوام لا تعرفينهم ثم تقولين نفر من قريش.
ثم بعد مدة الجأتهم الحاجة إلى دخول المدينة، فدخلاها وجعلا ينقلان البعير اليها ويبيعانه ويعيشان منه فمرت العجوز في بعض سكك المدينة، فاذا الحسن(عليه السلام)على باب داره جالس فعرف العجوز وهي له منكرة، فبعث غلامه فردها فقال لها: يا امة الله تعرفيني؟ قالت: لا. قال انا ضيفك يوم كذا. فقالت العجوز بأبي أنت وأمي فامر الحسن(عليه السلام)فاشترى لها ما شاء الصدقة ألف شاة، (2) وامر لها بألف دينار وبعث بها مع غلامه إلى اخيه الحسين(عليه السلام)فقال: بكم وصلك اخي الحسن؟ فقالت: بألف شاة والف دينار، فامر لها بمثل ذلك، ثم بعث بها مع غلامه إلى عبد الله بن جعفر(عليه السلام)فقال: بكم وصلك الحسن والحسين(عليهما السلام)؟ فقالت: بألفي دينار والفي شاة فامر لها عبد الله بألفي شاة والفي دينار».(3)
الصدقة تدفع ميتة السوء(4)
لقد قلنا سابقاً: إنَّ الصدقة تفيد المنفق قبل أنْ يفيد منها المحتاج، وقد درسنا في السطور السابقة ما يترتب على الصدقة من صفات كمالية اضافة إلى الاجر والثواب المعنوي، ونقول هنا: بأنَّ الصدقة تدفع البلاء والموتة السيئة، والرواية التالية تكشف عن هذا الامر.
مرَّ يهودي بالرسول(صلى الله عليه وآله) فقال: السام عليك(5) فاجاب الرسول: «وعليك»، فقال النبي(صلى الله عليه وآله): «إنَّ هذا اليهودي يعضه اسود في قفاه فيقتله»، قال: فذهب اليهودي فاحتطب حطباً كثيراً فاحتمله ثم لم يلبث أنْ انصرف فقال له رسول الله(صلى الله عليه وآله): «ضعه» فوضع الحطب فاذا اسود في جوف الحطب عاض على عود فقال: «يا يهودي أي شيء عملت اليوم؟» فقال: ما عملت عملا إلاَّ حطبي هذا احتملته فجئت به وكان معي كعكتان فاكلت واحدة وتصدقت بواحدة على مسكين، فقال بها دفع الله عنه
« وقال رسول الله صلىّ الله عليه وآله: «إنّ الصدقة تدفع ميتة السوء عن الإنسان»،()6
-----------------------------------------------------
الهوامش
. 1ـ وسائل الشيعة ج 6، ابواب الصدقة الباب 22، الحديث 3
. 2 ـ رغم الولاء الظاهر الذي كان يبديه الناس لحكومة معاوية، إلاّ أنّ قلوب كثيراً منهم أو اكثرهم كانت مع الأئمة، ويبدو أنَّ بذل الامام الحسن هذا كان من محل تبرعات الناس وانفاقهم وعطائهم لأهل البيت.
. بحار الانوار 43: 348J .3
4ـ يراد من ذلك الموت الذي يحصل اثر الإحتراق أو الموت بالتقطيع ارباً ارباً وما شابه.
5ـ هذه الطريقة من السلام تعارفت عند بعض المسلمين، وهو أمر يؤسف له، ويبدو أنَّ عملهم هذا ناشىء عن الجهل بما يعني هذا السلام، الذي هو نوع من اللعن.
. 6ـ وسائل الشيعة ج 6، ابواب الصدقة، الباب 9، الحديث 3، ونجد هناك روايات أخرى بهذا المضمون.
المصدر:أمثال القرآن