القرآن الكريم يلغي الطبقية الإجتماعية
إنَّ القرآن الكريم ينظر الى أفراد المجتمع الإِنساني على أساس رابطهم التكويني في الخلق فيما بينهم وهو رابط الانسانية، وهذا الرابط الانساني يجمع الافراد في شتى المناسبات من أفراح وأتراح وتعارف، فالفرد_ بغض النظر عن نوعية ارتباطه الفكري والعقائدي بالآخرين_ يعيش بالدرجة الاولى ارتباطاً انسانياً مع افراد مجتمعه، فالقرآن يشير الى هذا المعنى عندما يتحدث عن دعوة الانبياء للشعوب الكافرة، فيقول: (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا) (1)، (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا) (2). ان مفهوم الآيتين الشريفتين يدل على ان القاسم المشترك والجامع بين كفار ثمود ومدين من جهة، وبين النبي صالح والنبي هود وشعيب من جهة اخرى هو اشتراكهم جميعاً في جنس الانسانية، على اختلاف اطباعهم وميولهم العقائدية ووظائفهم الاجتماعية. فالقرآن يتعامل مع معنى الحياة البشرية بما فيها من قضايا الخلق والتكوين ومعرفة النفس، والتضامن والتآخي الاجتماعي، والضبط الاخلاقي الاجتماعي، والتسلية العاطفية والطمأنينة النفسية للمؤمنين به(3).
ربّ قائل يقول ما هو سر هذا فالقران الكريم يتكفل الاجابة بقوله: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)(4). وبطبيعة الحال، فان تنظير القرآن الكريم على فهم الرابط الانساني الذي يربط الافراد دون النظر الى منشأهم وعقيدتهم، ضروري ضمن النظرية الاسلامية في تكامل النظام الاجتماعي؛ لأن الانسان ـ حسب تلك النظرية ـ مصمم منذ نشأته الاولى على التحسس والشعور والانفعال والتفاهم والتغير، وهي امور يتميز بها الانسان عن غيرهم من الكائنات.
وهذه الرابطة الانسانية المشتركة بين بني البشر والتي يعلنها الاسلام بكل صراحة ويطبقها في كل احكامه وتشريعاته، تميزه عن بقية الاديان والعقائد في الاهتمام بكرامة الانسان واشباع حاجاته الاساسية، فيصرح القرآن المجيد بكل وضوح منادياً: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (5).
فالتفاضل الالهي بين الافراد يستند ـ في الاصل ـ على الجهد البشري في العمل الاجتماعي والصفاء الروحي والشخصي للفرد، وحق الطاعة للخالق عز وجل؛ لأن جعل الافراد عن طريق الاجتماع شعوباً متميزة يحتاج بصورة اساسية الى جهودهم في التعاون والتكاتف لبناء صرح الانظمة الاجتماعية العظيمة.
ولما كان المجتمع الانساني مبنياً على تفاوت قابليات الافراد في التحصيل وبذل الجهد اولاً، ولما كانت الثروة العينية والقيمية في تحرك وتداول مستمر بين الافراد ثانياً، أصبح نشوء الاختلاف في تملك الثروة وبذلها امراً حتمياً. ويدل هذا الاختلاف على تنوع وتفاوت الادوار والوظائف الاجتماعية بين الافراد؛ وهذا التنوع يتطلب اختلافاً في درجات العيش ضمن الطبقة الواحدة فحسب، ولا يتطلب تعدداً للطبقات الاجتماعية كما تؤكد المدرسة التوفيقية.
وبطبيعة الحال، فان الاسلام لم يتعامل مع مشكلة الفقر تعاملاً هامشياً، بل دخل في معترك الصراع الاجتماعي مسلحاً بضوابطه الشرعية الدقيقة في تضييق الفوارق الطبقية، فشرع ـ اولاً ـ اصالة اشباع حاجات الافراد الاساسية من الطعام واللباس والسكن، وامضى ما أقره الارتكاز العقلائي فيما يتعلق بالخدمات الصحية، والخدمات الاساسية الاخرى كالنقل ونحوه، وقرر ـ ثانياً ـ ان للفقراء حقاً في اموال الاغنياء: (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (*) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) (6)، ففرض ضرائب على الثروة الحيوانية والزراعية والمعدنية والنقدية ونحوها، وبذلك تعامل الاسلام مع صميم المشكلة الاجتماعية بهدف ازالة اسباب الفقر والحرمان، واقتلاع جذور الفساد الاقتصادي وتراكم الثروة وظهور الطبقية في المجتمع الاسلام.
فالزكاة التي أوردها القرآن الكريم: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا) (7)، و(إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) (8) ـ وهي ضريبة عينية أو قيمية محددة بنسبة مئوية في الانعام الثلاثة: الابل والبقر والغنم، وفي الغلات الاربع: الحنطة والشعير والتمر والزبيب، وفي النقدين الذهب والفضة ـ تشبع الفقراء من المأكل والملبس وتسد حاجاتهم الاساسية الاخرى. والخمس في قوله تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) (9) ـ وهو اخراج عشرين بالمائة من الواردات السنوية، خمس الغنيمة كانت أو خمس الفائدة أو الربح، كالمعادن المستخرجة من الأرض وما يخرج من البحار وما يعثر عليه من الكنوز، وما يفضل من مؤونة سنة الافراد ـ تعكس حقيقة مهمة في فكرة العدالة الاجتماعية وهي ان خمس الثروة الاجتماعية يجب ان تذهب لمساعدة الفقراء والمشاريع والخدمات الاجتماعية التي ترفع من مستواهم وتمنحهم فرصاً حقيقيةً للعمل والانتاج، وتساعد الدولة أيضاً على بناء المدراس والمستشفيات ووسائل التدريب والتأهيل الاجتماعي. هذا اضافة الى ان الضرائب التي فرضها الاسلام كالصدقة الواجبة: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا...) (10).
فالقران الكريم يتبنى نظرية التكافل والتساوي بين افراد المجتمع في النظام الاسلام ولاشك ان الاسلام يرفض فكرة النظرية التوفيقية الغربية القائلة بأن انعدام العدالة الاجتماعية يمكن جبره بزيادة الانتاج (11)، لان انعدام العدالة بين طبقات المجتمع الانساني لا يمكن تبريره بأية منفعة اجتماعية مهما كان لونها ومنشأها، ولكن اقرار الاسلام بالمساواة التامة في دفع المكافأة الاجتماعية لكل الافراد مهما كان لونهم أو جنسهم، يساعد على زيادة الانتاج الاجتماعي، ويساهم في تمتين الاواصر النفسية بين جميع العمال على الساحة الانتاجية. فالفرد ذو البشرة البيضاء لا يختلف عن نظيره من ذوي البشرة السوداء أو الصفراء، بل ان الكل سواسية امام رب العمل؛ والمقياس في دفع الاجر هو الجهد المبذول وقيمة العمل، وهذه هي عين المساواة الحقيقية.
ومنشأ تحريم التفاضل على اساس لون البشرة كالابيض والاسود، أو جنس الانسان كالذكر والانثى، أو منشأ الفرد كالمولود في الريف والمولود في المدينة: ان هذه المقاييس تتنافى مع العدالة الاجتماعية التي أقرها الدين، بل ان التفاضل الذي امضاه الشرع الحنيف وشجع الافراد على ممارسته هو التفاضل القائم على اساس بذل الجهد وقيمة العمل.
ولما كانت قابليات الافراد في التحصيل والفهم والادراك متفاوتة، كان تمايز الافراد واختلافهم من الناحية العلمية الاكتسابية امراً حتمياً. وأفضل ما يسلط الضوء الكاشف على الفارق بين الطاقات البشرية وقابلياتها على الانتاج، قوله تعالى: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَم لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (1).
والخلاصة: ان التفاضل بين الافراد على اساس الجهد وقيمة العمل أصل مشروع وقاعدة عامة لتنمية المواهب والطاقات الخلاقة، شرط ان لايخرج ذلك عن اطار العدالة الاجتماعية في سد الحاجات الاساسية لكل افراد النظام الاجتماعي. فالنظرية الاسلامية التي جاء بها الاسلام كفيلة بان تحقق السعادة لبني البشر جميعا ولكن هذه النظرية لاتزال معطلة ولايعمل بها لانها تحقق الحق والعدل والمساواة ولكن القران صرح بان (وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ)(12).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الاعراف: الآية73.
(2) سورة العنكبوت: الآية36.
(3) النظرية الاجتماعية في القران الكريم، الدكتور زهير الاعرجي.
(4) سورة الذاريات: الآية56.
(5) سورة الحجرات: الآية13.
(6) سورة المعارج: الآية، 24-25.
(7) سورة التوبة: الآية103.
(8) سورة البقرة: الآية271.
(9) سورة الانفال: الآية 41.
(10) سورة التوبة: الآية 60.
(11) جواهر الكلام: ج 16 ص 59.
(12) سورة المؤمنون: الآية 70.
المصدر: موقع العتبة الحسينية المقدسة