هذا الصوتُ الآتي من السماء
نزل القرآن من الله تعالى، والانسان أيضاً مصدره الله سبحانه، وكذلك سائر الكائنات. كلاهما إذن ـ أي كتاب التشريع وكتاب التكوين ـ تنزيله إلهي.. « تنزيلٌ من ربّ العالَمين ».
من هنا نجد القرآن قريباً من قلب الإنسان، ونجد صوت القرآن قريباً من باطن الإنسان. إنّه نداء الخالق الواحد الذي إليه الرُّجعى وإليه المصير.
هذا التعارف العميق بين المرء وكتاب الله سبحانه هو الذي يحثّ المرء على أن يقرأ في القرآن كل يوم.. يدنو منه ويتعرّف على أعماق منه، ويأنس به. من هنا نفهم قول الإمام الصادق عليه السّلام: ينبغي للمؤمن أن لا يموت حتّى يتعلّم القرآن، أو يكون في تعلّمه.
إنّ أبواب كتاب الله أبواب مفتوحة. وهي أبواب كثيرة وفيرة.. نلقاها في كلّ سورة من سوره، بل في كل آية من آياته، بل في كل كلمة وفي كل حرف. إنّها مداخل إلى النور من خلال النور.
فرصة عظيمة لنا إذن هي لنرافق كتاب النور هذا، نتعلّم منه كلَّ شيء، ونغترف من كنوزه المعنوية والمعرفية التي لا تعرف الحدود. يقول رسول الله صلّى الله عليه وآله: إنّ هذا القرآن مأذُبةُ الله، فتعلّموا من مأدُبته ما استطعتم.
ومنذ اللحظة الأولى لإستقبال النبي صلى الله عليه وآله الوحي القرآني
بدأت المسيرة الرسالية الطويلة في الكفاح ضد الوثنيّة والضلال وعوامل التخلّف الانسانيّ
وانطلق رسول الله صلّى الله عليه وآله بالقرآن لصياغة النفوس صياغةً توحيدية تؤهّل للجهاد وبذل الذات، والاستعداد التامّ لبناء أنموذج الإنسان المسلم والمجتمع المسلم.
وقد قدّم القرآن ـ أيها الأصدقاء ـ بُعداً شاملاً، هو البُعد الكونيّ الاستشرافيّ، الذي يجمع المعاني والدلالات الظاهرة والخفيّة لعالَمي الحياة والموت، ولقضيّة الخَلق. وبُعداً آخر هو البُعد الوضعيّ المختصّ بأمور البشر وعلاقاتهم وأحوالهم، ومصالحهم ومشكلاتهم.. وهو بُعد الإيفاء بالمعالَجات والحلول والتقويمات المتواصلة.
* * *
إنّ القرآن ـ يا أصدقاءنا ـ إذ جمع البُعدَين الكونيّ والوضعيّ.. كان يستعرض بمنطق المتحدّي قدرتَه اللغوية والأدبية بإعجازها الباهر الذي كان يواجه أُناساً عَرَباً أُوتوا قدرةً فائقة في شحذ اللغة.
حقّاً كانت عبقرية العربيّ عبقرية اللغة، وامتياز الشعر. وكان يستحيل استسلام العربيّ في تحدّيات اللغة والأدب والبيان بعامّة؛ لأنّه كان سيّدَ البيان المتفرِّغ له تفرّغاً مخلصاً منذ أمدٍ غير قريب.
تُرى.. هل كان عُتبة بن ربيعَة سيّد قومه.. سيندهش مأخوذاً بما سمعه من النبيّ صلّى الله عليه وآله من كلماتٍ لو لم تكن تلك الكلمات مشحونةً بطاقةٍ اكبر ممّا تعارَف عليه العرب في استعمالات اللغة العربية وإبداعاتها ؟!
نعم، كان قد سمع ما عَقّب عليه قائلاً وهو حائر مشدوه: لقد سَمِعتُ قولاً ما سمعتُ مثلَه قطّ؛ ما هو بالشعر، ولا بالسحر، ولا بالكَهانة. وكانت نفس الوليد تحت ضغط موجات سورة ( فُصِّلت ).
ولم يكن رأي الوليد بن المُغيرة المعروف بقوّة البيان والفصاحة ومباهاته الشديدة بجدارته الأدبية.. إلاّ رأيَ كلِّ مَن أصغى إلى التلاوة القرآنية. لقد قال حين سمع: ( لقد سمعتُ كلاماً ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجِنّ. وإنّ له لَحلاوة، وإنّ عليه لَطلاوة، وإنّ أعلاه لَمُثمِر، وإنّ أسفلَه لَمُغدِق، وإنّه يعلو ولا يُعلى عليه ).
ومن المنطقيّ أن الأُذن العربية التي سمعت آيات القرآن الكريم، كانت تضع نفسَ العربيّ وعقلَه أمامَ مُقارَناتٍ مباشرة بين الشعر الجاهليّ والآيِ الكريم.. فكان جمال الصورة البيانيّة يسحره اكثر من الشعر. بل إنّ الشعراء أنفُسَهم أُخذوا بالرجفة. وبعضهم أنهى شعرَه وتوقّف، مثلما فعل لَبيد بن ربيعة.. الذي كان شعره يُعلَّق على الكعبة ؟
شبكة الإمام الرضا عليه السلام