ما هو المراد من الفتح في الآية {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا} ؟
قال تعالى : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا * وَيَنصُرَكَ اللهُ نَصْرًا عَزِيزًا }[ الفتح : 1 ـ 3].
لقد ذكر المفسرون هنا وجوهاً ، فتردّدوا بين كون المقصود فتح مكة ، أو فتح خيبر ، أو فتح الحديبية.
لكن سياق آيات السورة لا يساعد الاحتمالين الأوّلين ، لأنّها ناظرة إلى قصة الحديبية والصلح المنعقد فيها في العام السادس من الهجرة ، والفتح الذي يخبر عن تحقّقه ووقوعه ، يجب أن يكون متحقّقاً في ذاك الوقت ، وأين هو من فتح مكة الذي لم يتحقّق إلاّ بعد عامين من ذلك الصلح حيث إنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فتحها في العام الثامن من هجرته ؟!
ولأجل ذلك حاول من قال : إنّ المراد منه فتح مكة ، أن يفسره : بأنَّ إخباره عن الفتح ، بمعنى قضائه وتقديره ذلك الفتح ، والمعنى قضى ربُّكَ وقدَّر ذاك الفتح المبين ، فالقضاء كان متحقّقاً في ظرف النزول وإنْ لم يكن نفس الفتح متحقّقاً.
ولكنّه تكلّف غير محتاج إليه ، وقصة الحديبية وإن كانت صلحاً في الظاهر على ترك الحرب والهدنة إلى مدّة معينة لكن ذلك الصلح فتح أبواب الظفر للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الجزيرة العربية ، وفسح للنبي أن يتوجّه إلى شمالها ويفتح قلاع خيبر ، ويسيطر على مكامن الشر والمؤامرة ، ويبعث الدعاة والسفراء إلى أرجاء العالم ، ويسمع دعوته أُذن الدنيا ، كل ذلك الذي شرحناه في أبحاثنا التاريخية كان ببركة تلك الهدنة ، وإن كان بعض أصحابه يحقّرها ويندّد بها في أوائل الأمر.
لكن مرور الزمان ، كشف النقاب عن عظمتها وثمارها الحلوة ، فصح أن يصفها القرآن : ( الفتح المبين ).
وعلى كل حال : فسياق الآيات يَدل بوضوح على أنّ المراد من الفتح هو وقعة الحديبية قال سبحانه : { إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا }[ الفتح : 10].
وأيضاً يقول : { لَّقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا }[ الفتح : 18] . وقال أيضاً : { وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا } [الفتح : 24].
ولا شك أنّ المراد من البيعة هو بيعة الرضوان التي بايع المؤمنون فيها النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) تحت الشجرة وأعرب سبحانه عن رضاه عنهم.
روى الواحدي عن أنس : انّ ثمانين رجلاً من أهل مكة هبطوا على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من جبل التنعيم متسلحين يريدون غرّة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه ، فأخذهم أُسراء فاستحياهم ، فأنزل الله : { وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ } (1).
أضف إلى ذلك أنّه سبحانه يخبر في نفس السورة عن فتح قريب ، وهذا يعرب عن أنّ الفتح المبين غير الفتح القريب ، قال سبحانه : { لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ المَسْجِدَ الحَرَامَ إِن شَاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا }[ الفتح : 27] ، وهذا الفتح القريب إمّا فتح خيبر ، أو فتح مكة. والظاهر هو الثاني ، وأمّا رؤيا النبي فقد تحقّقت في العام القابل ، عام عمرة القضاء ، فدخل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنون مكة المكرمة آمنين محلّقين رؤوسهم ومقصّرين ، وأقاموا بها ثلاثة أيام ، ثم خرجوا متوجهين إلى المدينة ، وذلك في العام السابع من الهجرة ، وفي العام الثامن توفق النبي لفتح مكة وتحقّق قوله سبحانه : { فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا }.
هذا كلّه حسب سياق الآيات ، وأمّا الروايات فهي مختلفة بين تفسيرها بالحديبية ، وتفسيرها بفتح مكة ، والقضاء فيها موكول إلى وقت آخر ، ولا يؤثر هذا الاختلاف فيما نحن بصدده في هذا المقام.
________________
(1) أسباب النزول : 218.
المصدر:مفاهيم القرآن ج5ص248