عاشوراء .. الزمن الإلهي
قال تعالى:
(قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) الجاثية 14
وقال الإمام الصادق عليه السلام في تفسيرها:
(قل للذين مننّا عليهم بمعرفتنا ان يُعرّفوا الذين لا يعلمون فاذا عرّفوهم فقد غفروا لهم)
اليوم .. مضى قرابة النصف مليون يوم على عاشوراء الإمام الحسين عليه السلام .. ولكن أيام الله لا تنتهي ولا ينطفيء ذكرها .. بل هي خالدة بخلود الله سبحانه .. أوليست هي أيامه .؟ .. هناك أيام يُكتب لها بعض الذكر .. يطول او يقصر .. لكنها في نهاية الأمر تنتهي ويُطفى ذكرها .. ولا تكاد تسمع لها ركزا ولا لأهلها همسا .. إلاّ أيام الله سبحانه .. ويوم عاشوراء من تلك الأيام التي لا تنتهي ولا يخلو زمن من ذكرها لا منذ وقوعه على التحقيق .. فهناك ذكر يومي للإمام الحسين عليه السلام على ألسن المؤمنين في كل يوم .. وحين كل صلاة على أقل التقادير .. بل ربما قبل وقوع ذلك اليوم الذي تحدث عنه جميع أنبياء الله وبكوا لمصاب الإمام الحسين عليه السلام وتوسلوا إلى الله سبحانه بمقامه ومصابه ..
لقد جعل الله سبحانه له مكاناً هو البيت الحرام .. وكتاباً هو القرآن .. وزماناً هي أيامه العظيمة .. ويوم عاشوراء يومها .. فإذا كانت الكعبة حج .. والقرآن نهج .. فإن يوم عاشوراء هو الباب الذي يلج فيه إلى الدين من ولَج .. إن الكعبة المكرمة لا تنطق .. والقرآن الكريم صامت .. ولا بد من قرآن ناطق يدعو إلى الدين لا بأقواله فحسب بل بأفعاله وكيانه ووجوده .. وذاك ما قام به النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإهل بيته و الإمام الحسين عليه السلام بالتحديد .. وسيما في يوم عاشوراء .. إن الناس قد تسمع الكثير من النظريات الجميلة .. لكنها لا تقدم على إعتناقها وتبنيها الا اذا رأت في تلك النظريات مصاديق عملية أو إمكانية فعلية للتطبيق .. أما إذا كانت مجرد نظريات جميلة وغارقة في النرجسية والمثالية فأن الناس وإن بدى البعض إعجابه بها إلا أنه لا يمكن أن يعتنقها ويعتقد بها إعتقاداً راسخاً .. ولولا رسول الله صلى الله عليه وآله وأهل بيته عليهم السلام لما وجدنا لمفاهيم ورؤى القرآن وبصائره العظيمة تطبيقاً ومصاديق عملية .. وبالتالي لانفض الناس من حول الدين واعتبروه مجرد نظريات حالمة غير قابلة للتطبيق .. ألا ترى كيف يخاطب الله جل جلاله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم على سبيل تعليمنا هذه الحقيقة بقوله (وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِك) .. وحاشا للنبي صلى الله عليه وآله أن يكون كذلك وإنما هي إشارة هامة جداً إلى أن سلوك النبي صلى الله عليه وآله وسيرته المباركة هي المدخل الأهم الذي يدفع الناس على الدخول إلى دين الله سبحانه وليس فقط مجرد وجود القرآن الكريم .. وهذا هو محور التحريف الذي لجأ إليه التحريفيون عندما رفعوا بعد شهادة النبي الاكرم صلى الله عليه وآله وسلم شعار (يكفينا كتاب الله) .. ليتحول الإسلام إلى نظرية بلا مصاديق عملية . وقد قام الإمام الحسين عليه السلام بتطبيق أهم وأشد مفاهيم القرآن التي كان من الصعب وربما المستحيل أن يستوعبها الناس (نظرياً) .. وهي مفاهيم الجهاد والتضحية والصبر والشهادة الإلهية .. مفهوم الذوبان الحقيقي والتام في الرسالة .. أجل .. قد نجد أمثلة لتلك المفاهيم في تاريخ الإسلام .. لكن لا تجدها مجتمعة في شخص أو ظرف إلا في الحسين و عاشوراء .. و لا تجدها تصل إلى المدى الذي بلغها به الإمام الحسين عليه السلام .. فليس مثل صبره صبر .. ولا مثل جهاده جهاد .. ولا مثل تضحيته تضحية .. ولا كشهادته شهادة .. لقد قدّم أبلغ مصاديق تلك المفاهيم .. وبلغ بسيرته العملية مستوى الفكرة النظرية التي ثبتها القرآن الكريم وذلك لأول مرة وآخر مرة في تاريخ البشرية .. وليس في هذا كما قد يذهب البعض إنتقاص والعياذ بالله لمقام النبوية المحمدية .. أو الإمامة العلوية .. بل على العكس تماماً .. فإنما هو حُسين محمد وسبطه و معجزته .. واأبرز مصاديق ما أوذي من أمته وهو القائل (ما اوذي نبي مثل ما أوذيت) .. فعلى بشاعة الأذى الذي لحق بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا أن اذاه في أهل بيته عليهم السلام من بعده .. وفي الحسين عليه السلام هو الأشد .. ولعله هو المقصود بذلك الأذى الذي ما أُوذي به نبي مثله ..
بقى أن نعلم أننا لا نتوقف عند أيام الله سبحانه .. ويوم عاشوراء يومها .. لمجرد إحياء الذكرى أو الإحتفال بها .. أو حتى التغني بأمجادها .. بل أن تلك الأيام تحملنا مسؤولية كبيرة .. و هي مسؤولية إبلاغ مضامينها إلى الآخرين .. لاولئك الذين لا يرجون أيام الله .. كما أشارت الآية الكريمة وكما وضحها حفيد الحسين جعفر الصادق عليهما السلام .. ان معرفتنا بيوم الله .. بيوم عاشوراء يحملنا مسؤولية تعريف الآخرين به .. لأن العالم بأجمعه يحتاج إلى يوم عاشوراء كحاجته إلى الإسلام بإعتباره خاتم الرسالات الإلهية وخلاص البشرية ..إننا مطالبون بأن نغفر للذين لا يرجون أيام الله .. لماذا؟ .. حتى نقترب منهم .. ونبلغهم مضامين تلك الأيام .. لأنها أهم مدخل إلى الدين و أوسع الأبواب إلى الإيمان .. كلنا سفن نجاة ولكن سفينة الحسين أوسع كما جاء في الحديث عن المعصوم عليه السلام .. إننا مطالبون بأن نتفهم عظمة يوم عاشوراء باعتباره مدخلاً كبيراً لهداية البشرية .. لأنه المصداق العملي لجوهر النظرية القرآنية ..
وقد لا يكون الذين لا يرجون أيام الله هم من غير المسلمين فحسب .. بل قد يكون هنالك البعض من المسلمين الذين حجبوا أنفسهم عن عاشوراء لأسباب ضيقة و أوهام صنعتها في مخيلاتهم قوى العداء لأهل البيت عليهم السلام على مر التاريخ .. وعلينا أن نهتم بهؤلاء أيضاً و من باب عاشوراء .. الذي ولج فيه إلى الدين الملايين .. و على سبيل المثال لا الحصر هناك فئة كبيرة في الهند تعد بالملايين تسمى بفئة (الهندوس الحسينية) .. تحرص هذه الفئة أشد الحرص على إحياء شعائر الإمام الحسين عليه السلام في كل عام و بأروع الصور وكافة الأشكال .. أما كيف أصبحت هذه الفئة كذلك .. فلأن أحد الهندوس رأى مواكب الامام الحسين عليه السلام وظل يتفاعل معها يوماً بعد آخر إلى أن وصل به الامر إلى أن يشارك فيها .. و بعد أن مات قام الهندوس بحرقه على عادتهم في أمواتهم .. فاحترق الرجل سوى كفه .. وبمقدارها على صدرها .. وكلما حاولوا احراقها لا تحترق .. تحققوا في الامر أكثر وعرفوا أن سر ذلك أن الرجل كان يلطم بكفه على صدره في الموكب الحسيني .. هذه قصة تأثر فيها الرجل بنفسه و تأثر بسببه الملايين .. دون أن يبذل شيعة الإمام الحسين عليه السلام جهداً في ذلك ..إلا ببركات المواكب الحسينية .. فلنتصور ماذا نستطيع أن نفعل لو قمنا بجهود حقيقية في هذا الطريق .. وحملنا راية الامام الحسين عليه السلام بجد وإجتهاد وبلغناها للعالمين.؟
المصدر: موقع مَجْمُوْعَة الْنُّوْر الْحُسَيْنِي