إن من يتتبع أحاديث العترة النبوية الطاهرة يجدها تسير جنباً إلى جنب مع القرآن، تتمسك بآياته، وتستدل بإشاراته، كما أن القرآن الكريم نفسه يشيد بمواقفهم وأقوالهم عليهم السلام؛ إذ وصفهم بالطهارة من الرجس المعنوي والمادي ذلك الوصف المؤكد الذي يقتضي تنزيههم عن أي خطأ ، ومخالفة للكتاب، بل يقتضي كونهم مع القرآن في هدف واحد وعلى جاده واحدة، ولا غرابه إذا قيل: إنهم عليهم السلام ورثوا الكتاب وعلمه وفهمه وفقه أسراره ومقاصده وأبعاده وبطونه دون غيرهم، فذلك أمرٌ قد جرى بعض منه فيه الأنبياء السابقين وأوصيائهم كما يصرح القرآن الكريم بذلك.
وقد صرح أئمة أهل البيت المطهرون عليهم السلام بهذا الأمر في تصريحات مستقلة، مثلما روي عن الإمام موسى بن جعفر عليه السلام إذ قال: «نحن الذين اصطفانا الله عز وجل، وأورثنا هذا الذي فيه تبيان كل شيء»أصول الكافي: ج1، ص226، ح7.
ومن البديهي أن أولى الناس بذلك هو من يرتبط بصاحب الرسالة بوشائج القربى، ويكون على درجة عالية من الطهر والتقى والورع والذكاء والنبوغ ليزداد حرصه على الرسالة وعلى ميراث صاحبها من العلوم والمعارف؛ ولهذا اختص نسب الرسول وذريته عليهم السلام بعلم الكتاب العزيز، فهم تحملوه وحملوه كمسؤولية كبرى، وتجشموا في سبيل المحافظة عليه عناء كبيراً ونصباً كثيراً، وقاتلوا الناس على تنزيله، ثم قاتلوهم على تأويله، ثم إن البراهين والأدلة العملية التي قدمها الأئمة عليهم السلام في مجال تفسير القرآن وفك رموزة وبيان بطونه وأبعاده بنفسها خير شاهد على ذلك، ونذكر هنا جملة من الأحاديث الواردة بهذا الشأن تيمناً وتبركاً:
عن أبي الصباح قال: والله لقد قال لي جعفر بن محمد الصادق عليه السلام: «إن الله علَّم نبيه صلى الله عليه وآله التنزيل والتأويل، فعلمه رسول الله صلى الله عليه وآله علياً عليه السلام قال: وعلمنا والله» الكافي: ج7، ص442، ح15؛ التهذيب: ج8، ص286، ح1052، وسائل الشيعة: ج23، ص224، ح29426، باب 12 من أبواب كتاب الأيمان.
وعنه أبي عبد الله الصادق عليه السلام في قول الله عز وجل: «بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ» العنكبوت:50 قال: «هم الأئمة عليه السلام» أصول الكافي: ج1، ص214، ح2.
وفي رواية آخرى: «هم الأئمة عليهم السلام خاصة» أصول الكافي: ج1، ص214، ح5.
وعنه عليه السلام في قوله عز وجل: (سَنَفْرُغُ لَكُمْ آيُّهَ الثَّقَلاَنِ), قال: «الثقلان نحن والقرآن» بحار الأنوار: ج24، ص324، ح37.
15ـ وعن أبي عبد الله عليه السلام قال: «إن الله جعل ولا يتنا أهل البيت قطب القرآن» بحار الأنوار: ج89، ص27، ح29
الإمام الصادق عليه السلام وتفسير أبو حنيفة للقرآن الكريم
دخل أبو حنيفة النعمان على الإمام الصادق عليه السلام فسلم وجلس فقال الإمام علبه السلام: أنت فقه أهل العراق؟
قال :نعم
قال : فبما تفتيهم ؟ قال :
بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله ، فقال : ياأبا حنيفة تعرف كتاب الله حق معرفته ، وتعرف الناسخ والمنسوخ ؟ قال : نعم ، قال: يا أبا حنيفة لقد ادّعيت علماً ، ويلك ما جعل الله ذلك إﻻ عند أهل الكتاب الذين أنزل عليهم ، ويلك وﻻ هو إﻻ عند الخاص من ذرية نبينا صلى الله عليه وآله ، وما ورثك الله من كتابه حرفا فإن كنت كما تقول ولست كما تقول ، فأخبرني عن قول الله عز وجل (( سيروا فيها ليالي وأياما آمنين )) سبأ18
أين ذلك من الأرض ؟ قال : أحسبه مابين مكة والمدينة ، فالتفت أبو عبد الله عليه السﻻم إلى اصحابه فقال : تعلمون أن الناس يقطع عليهم بين المدينة ومكة فتؤخذ أموالهم وﻻ يؤمنون على أنفسهم ويقتلون ؟ قالوا: نعم ، قال فسكت أبو حنيفة ، فقال : يا أبا حنيفة أخبرني عن قول الله عز وجل (( ومن دخله كان آمنا ))آل عمران97
أين ذلك من الأرض ؟ قال : الكعبة ، قال : أفتعلم أن الحجاج بن يوسف حين وضع المنجنيق على ابن الزبير في الكعبة فقتله كان آمنا فيها ؟ قال : فسكت ، ثم قال له : يا أبا حنيفة إذا ورد عليك شيء ليس في كتاب الله ولم تأت به اﻵثار والسنة كيف تصنع ؟ فقال : أصلحك الله أقيس وأعمل فيه برأيي ، قال : يا أبا حنيفة إن أول من قاس إبليس الملعون قاس على ربنا تبارك وتعالى فقال (( أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين )) الأعراف12 فسكت أبو حنيفة . علل الشرائع للشيخ الصدوق 1/150
لماذا لم يتَّبع أبو حنيفة أستاذه الإمام الصادق ( عليه السَّلام ) ؟
مما يثير الإستغراب و يبعث على التساؤل حقاً هو أن أئمة المذاهب الأربعة
. المذهب الحنفي ، المنسوب لأبي حنيفة النعمان بن ثابت بن زوطي ، المولود سنة : 80 هجرية ، و المتوفى سنة : 150 هجرية .
. المذهب المالكي ، المنسوب لمالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر ، المتولد سنة : 95 هجرية ، و المتوفى سنة : 179 هجرية .
. المذهب الشافعي ، المنسوب لأبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي ، المولود سنة : 150 هجرية ، و المتوفى سنة : 204 هجرية.
. المذهب الحنبلي ، المنسوب لأحمد بن حنبل بن هلال بن أسد ، المولود سنة : 164 هجرية ، و المتوفى سنة : 241 هجرية .
رغم إعترافهم بالمنزلة العلمية و الدينية الرفيعة للإمام جعفر بن محمد الصادق ( عليه السَّلام ) ، و رغم معرفتهم بأنه حفيد رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) و من جملة آل بيته الطاهرين ( عليهم السلام ) الذين لا يأخذون تعاليمهم إلا من جدهم رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) مباشرةً ، و أما جدهم النبي ( صلى الله عليه و آله ) فكل ما نطق به فقد أخذه من الله عَزَّ و جَلَّ عن طريق الوحي ، قال الله جَلَّ جَلالُه : ﴿ وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾ النجم 3و4] .
فأئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) سندُ أحاديثهم متصل بالوحي مباشرة ، حيث أنهم كانوا يقولون حدثني أبي عن جدي عن جبريل عن الباري ، فمذهبهم هو مذهب الرسول ( صلى الله عليه و آله ) لا يختلف عنه في شيء أبداً .و الغريب أننا نجدُ أن أبا حنيفة إمام المذهب الحنفي و أستاذ بقية أئمة المذاهب الأخرى رغم تتلمذه على الإمام الصادق ( عليه السَّلام ) ، و رغم إعترافه الصريح بأهمية ما تلقاه من الإمام الصادق ( عليه السَّلام ) ، فإنه مع كل ذلك قد خالف أستاذه الإمام الصادق ( عليه السَّلام ) و لم يتَّبعه في منهجه الفقهي و العلمي .يقول الآلوسي : و هذا أبو حنيفة و هو هو بين أهل السنّة كان يفتخر و يقول بأفصح لسان : " لولا السنتان لهلك النعمان " يريد السنتين اللتين صحب فيها - لأخذ العلم - الإمام جعفر الصادق ( عليه السَّلام )
و يقول مالك بن أنس : إختلفتُ إلى جعفر بن محمد زماناً فما كنت أراه إلاّ على إحدى ثلاث خصال : إما مصلّياً و إما صائماً و إما يقرأ القرآن ، و ما رأيته قط يُحدِّثُ عن رسول الله إلاّ على الطهارة ، و لا يتكلم بما لا يعنيه ، و كان من العلماء العبّاد و الزهاد الذين يخشون الله و ما رأت عين و لا سمعت اُذُنٌ و لا خَطَرَ على قلب بشر أفضل من جعفر بن محمد الصادق علماً و عبادة و ورعاً
كتاب المجالس السنية : / 5 ، و قد ذكر ابن تيمية في كتاب التوسل و الوسيلة : 52 الطبعة الثانية ، هذه العبارة في جملة طويلة في ضمنها هذه الجملة .
التهذيب : 2 / 104 .
و هنا يكرر السؤال طرح نفسه : إذاً لماذا لم يتبع أبو حنيفة أستاذه الإمام الصادق ( عليه السَّلام ) ؟و الجواب واضح يتفطن إليه كل من أراد الحقيقة بعيداً عن الإنتماءات و التعصبات المذهبية ، و السبب الأول و الأخير في هذا الأمر و في غيرها من الموارد الأخرى المشابه ليس إلا السياسة و حب الرئاسة و و ...و يكفيك دليلاً على صحة هذا القول موقف أبي حنيفة من أستاذه و تعاونه مع السلطان للنيل منه .يقول أبو حنيفة : ما رأيت أفقه من جعفر بن محمد ، لما أقدمه المنصور بعث إليَّ .
فقال : يا أبا حنيفة إنّ الناس قد افتتنوا بجعفر بن محمد ـ أي الإمام جعفر بن محمد الصادق ( عليه السَّلام ) ـ فهيّئ له من المسائل الشداد ، فهيأت له أربعين مسألة ثم بعث إليّ أبو جعفر المنصور و هو بالحيرة ، فدخلت عليه و جعفر بن محمد جالس عن يمينه ، فلما بَصُرتُ به دخلتني من الهيبة لجعفر ما لم يدخلني لأبي جعفر المنصور ، فسلَّمتُ ، و أومأ فجلست .
ثم إلتفتَ إليه قائلاً : يا أبا عبد الله هذا أبو حنيفة .
فقال : نعم أعرفه .
ثم التفت المنصور ، فقال : يا أبا حنيفة ألقِ على أبي عبد الله مسائلك .
فجعلت ألقي عليه فيجيبني فيقول : أنتم تقولون كذا ، و هم يقولون كذا ، و نحن نقول كذا ، فربّما تابعنا ، و ربّما تابعهم ، و ربّما خالفنا ، حتى أتيت على الأربعين مسألة ، ما أخلّ منها مسألة واحدة.
ثم قال أبو حنيفة : أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس
مناقب أبي حنيفة للموفق : 1 / 173 ، و جامع أسانيد أبي حنيفة : 1 / 252 ، و تذكرة الحفاظ للذهبي : 1 / 157 .
و هذه القضية تدل بوضوح على حب الرجل للرئاسة حيث حاول إرضاء المنصور و التقرب إليه حتى بواسطة النيل من الإمام الصادق ( عليه السَّلام ) ، الأمر الذي لم يوفق له
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين.