الأدلة الأربعة في التشريع
جُعلت قواعد أدلة الأحكام الشرعية أربعة أركان أصلية ( الكتاب، السنة، العقل والإجماع ) وهي التي تُسمّى بالأدلّة الأربعة وتُتخذ ركائز تبنى عليها مناهج البحث.
وفي هذا المجال وقع الإختلاف بين المذاهب الإسلامية في تعيين مصداق كلّ من هذه الأصول الأربعة، فعلى سبيل المثال جُعل القياس مكان العقل بين أوساط أبناء العامة، واعتبر مؤهلاً للعمل به، ونجد المذهب الحنفي يتمتع بمستوى رفيع لتلقيه والأخذ به بصورة لا يحظى بها المذهب الشافعي، ولم يصل إلى ذلك الحدّ.
أما الأصول الثلاثة الأ خرى، فيتفق المذهب الإمامي فيها مع أبناء العامة في اللفظ، وينتهج كلّ منهم في الأخذ بكلّ من هذه الأصول الثلاثة مذهباً وطريقاً خاصاً ينتهي في بعض الأحيان إلى التباين والإفتراق فيما بينهم.
فعلى سبيل المثال : إن الإمامية تثق بالإجماع الذي يستكشف منه رأي وقول المعصوم (عليه السلام)، وهذه الصورة مما لا نجدها بين أوساط أبناء العامة بالنسبة إلى الإجماع، وإنما نجدهم يكتفون في ذلك بحديث مجموعة يُعتمد على قولهم.
أما الركائز الأساسية والرئيسيّة الأخرى فهما الكتاب والسنة :
الكتاب :
يعتبر الكتاب السماوي ـ كمصدر أساسي في تشريع الأحكام عند كافة المذاهب الإسلامية ـ بأنه يمتاز بالأسبقية والأفضلية الخاصة عند جميع المذاهب، وتليه المصادر الأخرى في مكان تتأخر عنه، وهذا مما لا يمكننا أن نستبدله بصورة أخرى، إذ السنة أيضاً تستقي حجّيتها من الكتاب، وتستقي حجيتها وفقاً لحكمة الله سبحانه وتعالى، وأيضاً فالأنبياء وأوصياؤهم إنما وجبت طاعتهم على ضوء أوامر القرآن الكريم.
إن القرآن الكريم بصفته خاتم الكتب السماوية وأكمل دستور رباني، يعتبر أوّل ركيزة أساسية من الأصول الأربعة، وإن آياته تتمتع بثروة هائلة تستطيع أن تمد مصادر التشريع بالأحكام المرتبطة بشؤون الفرد والجماعة.
وبما أن صدور القرآن الكريم من عند الله سبحانه وتعالى أمر مفروغ منه ومسلّم به، يجد المتمسك بأحكامه المشرقة من هذا المنطلق أن يوليه الثقة والإنقياد له، وأن يكون متمسكاً وملتزماً بأوامره ونواهيه.
وحيث أن هذا الكتاب السماوي يعتبر البرنامج الإلهي الاخير المُنزل من قبل الله سبحانه وتعالى لهداية البشريّة، فيتحتم أن تستوعب أحكامه كافة الفترات الزمنية اللاحقة للعمل به والإنتفاع منه، والبطون المتعددة للقرآن تكفي ليكون له على امتداد العصور والقرون المصاديق البارزة والواضحة على أرض الواقع، واتصاف القرآن بالبطون المتعدّدة جعلت دلالة آياته ظنية، وجعلته مؤهلاً لحمل أوجه ومعاني تلك البطون.
ومن جهة أُخرى أثبتت ضرورة وجود المبيّن والمبلّغ للقرآن هذه الحقيقة بأن الايات القرآنية ليست بذلك المستوى الذي يستوعبها أو يفطن إلى مغزاها الجميع، وعندئذ يبرز بوضوح ضرورة وجود من يرفع الحاجة بتبيينه وتفسيره.
وكما قيل إن مسألة وجوب وضرورة وجود المبيّن للقرآن (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نزِّلَ إلَيْهِمْ)(1) تثبت أن استيعاب وتفطّن الآيات غير متاح للناس من دون تبيين وإيضاح.
ويتّضح من لزوم تبيين الوحي هذا الأمر، بأن الرسول ينبغي أن يحمل على عاتقه مهمة التبيين، إضافة إلى مسألة تبليغ وعرض الايات.
وفي نطاق أوسع فقد أُذن للرسول أن يصرّح ويبيّن مجمل ومتشابه الكتاب، أو يُشير إلى مالم يتطرق إليه القرآن، ومن ثم نجد وضوحاً في التوجيهات والاحكام الدينيّة والشرعية مما لا نجده في الكتاب وحده.
وتواجد مثل هذه الأحكام في السنة توضّح وتبيّن لنا هذه الحقيقة بأنّ مسألة تبيين الآيات القرآنية هي الّتي توفر المقتضي لبيان وذكر مثل هذه الأحكام، وذلك لقوله تعالى في سورة الحاقة : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الاَْقَاوِيلَ لاََخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ)(2) ، وهذا يعني أن الرسول لم يكن مأذوناً لبيان أي كلام في مجال التشريع ولم يسمح له أن يشرّع من تلقاء نفسه بما يشاء، وعلى هذا يدل قوله تعالى : (وما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إلاَّ وَحْيٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى)(3) ، وقوله تعالى : (قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ من تِلْقَاءِ نَفْسِي إنْ أَتَّبِعُ إلاَّ مَا يُوحى)(4) .
السنّة :
عُرف التمسك والإلتزام بالسنة ووجوب أتباعها في أوساط المذاهب الإسلاميّة بأنه الأساس والركيزة الثانية في مجال تشريع الأحكام.
ولم يلحظ أي رفض أو إنكار في مجال شرعيته، ولكن الأمر الجدير بالمتابعة والدراسة بدقة وحيطة في هذا المجال هو مناقشة مدى الاستقلال بالسنة أو صلتها بالكتاب.
وكما بينّا فيما سبق فإن السنة تلزم بالضرورة ـ ومن دون أيّ انفصال ـ أن تكون مبينة لأحكام القرآن المشرقة، ولا يمكنها الإنفصال عن القرآن أبداً.
والملاحظة التي ينبغي الإلتفات إليها في مجال تبيين وإيضاح السنة للأحكام القرآنية هي هل يمكن للسنة أن تتعارض أو تتنافى مع الكتاب أم لا ؟
السنة : هي قول وفعل وتقرير المعصوم، ويختص ذلك عند أبناء العامة برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فهل هذه الاتجاهات والمصادر الثلاثة من الرسول والإمام يمكنها ولو بصورة جزئية أن تقع في عرض الكتاب لتعارضه أو تنافيه ؟
وإجابة على هذا الاستفسار وهذه المسألة التي تتشكل منها المباحث الرئيسية في هذا المجال سنناقش هذا الموضوع وندرس هذه القضيّة تحت عنوان «استقلال السنة في التشريع».
___________
(1) النحل : 44.
(2) الحاقة : 45 ـ 46.
(3) النجم : 3.
(4) يونس : 15.
المصدر: موقع مؤسسة السبطين العالمية