بلقيس الملكة الحكيمة

وردت كثير من المعارف القرآنية بصورة قصص فالقرآن يُلقي الضوء على بعض الأحداث ويحكي تاريخ الأمم السابقة ،ويقصّها علينا بوصفها أحسن القصص وأكثرها فائدة للناس، فهي ليست ترفاً فكرياً ، بل تهدف إلى إعطاء العبرة والموعظة والدرس من التاريخ وما حصل فيه من تجارب إنسانية ، قال تعالى : { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } الرعد آية 111

ومن أجمل القصص التي وردت في القرآن قصة الملكة (بلقيس) ملكة (سبأ) تلك المرأة الحكيمة ، وقصتها مع نبي الله سليمان (عليه السلام )، وكيف استطاعت بحكمتها وتفكيرها المنطقي والمتّزن من إنقاذ مجتمع كامل ، وتجنيبه حرباً عواقبها وخيمة ، ونقله من الكفر إلى الإيمان . 
واللطيف في القصة أنها تبدأ بحيوان صغير هو (الهدهد) ، فهو البطل الأول الذي غاب حتى وصل إلى مدينة سبأ ، وعندما عاد نقل مشاهداته للنبي سليمان (عليه السلام) وعلى إثرها جرت باقي الأحداث !.

- من هي بلقيس ؟

الهدهد جاء لسليمان بخبر على درجة كبيرة من الأهمية ولاشك في صحته ، وهو ما وصفه القرآن ب{ نبأ يقين } ، قال له الهدهد وبعبارة موجزة : { إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ولَها عَرْشٌ عَظِيمٌ } النمل آية 23
يقول المؤرخون : إن بلقيس هي بنت شراحيل بن مالك بن الريّان ، وكان أبوها ملك اليمن ، وقد انحدر من سلالة ملكية ممتدة عبر أربعين جيل من الملوك ، ولم يكن له أبناء غيرها فأصبحت هي الملكة .
هذا النبأ أزعج نبي الله ،وجعله يغرق بتفكير عميق ، وما أقلقه ليس الملكة ولا امتلاكها كل شيء من لوازم الملك العظيم من إمكانات مادية ،وقوة عسكرية ، ولا عظمة عرشها بل لأنه اكتشف - وغير بعيد عن مملكته - وجود أمة كاملة منحرفة دينياً وعقائدياً وقائمة على الشرك ، وهنا قد يرد سؤال : كيف خفي أمر بلقيس ومملكتها على نبي الله ؟ قد يكون هذا الخفاء لحكمة أرادها الله تعالى ،كما خفي مكان يوسف على يعقوب (عليهما السلام) ، وتابع الهدهد قائلاً : { وَجَدْتُها وقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّه وزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُم عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ } النمل آية 24
أصغى سليمان (عليه السلام) لكلام الهدهد وفكر فيه ملياً لكنه لم يصدقه مباشرة ، ولم يتسرع في اتخاذ الإجراءات وفي الوقت نفسه لم يكذبه ؛ فالقضية ليست ساذجة وبسيطة بل مسألة خطيرة تتعلق بمصير أمة وبلاد ؛ لذا أحال المسألة للتحقيق قائلاً : { سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ } النمل آية 27 ، أي سنتأكد من صدق المعلومات التي أتيت بها ، وذلك عن طريق إرسال رسالة إلى هذه الملكة ،وأوكلَ مهمة إيصالها إلى الهدهد نفسه على أن يوصلها إلى الملكة وهي حاضرة بين قومها حتى لا تتعرض للتجاهل أو الكتمان . 
كان محتوى الرسالة كالتالي : بسم اللَّه الرّحمن الرّحيم ، من عبد اللَّه سليمان بن داود إلى بلقيس ملكة سبأ : السلام على من اتّبع الهدى . أمّا بعد ، فلا تعلوا عليّ وأتوني مسلمين وهكذا كانت رسائل الأنبياء جملاً لا يطيلون ولا يكثرون ،وطبع الكتاب بالمسك ، وختمه بخاتمه ، ودفعه إلى الهدهد قائلاً : { اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِه إلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ } النمل آية 28

-مميزات شخصية الملكة بلقيس:

الجوانب المميزة في شخصية الملكة بلقيس نلمسها في ردود فعلها على رسالة النبي سليمان (عليه السلام) ، وكيف تصرفت فيما بعد ، فعلى أصح الآراء أن الرسالة أُلقيت إليها وهي في بلاط حكمها والقادة والجنود حولها ، حيث رفرف الهدهد والناس ينظرون وعندما رفعت الملكة رأسها ، ألقى الرسالة في حجرها ،وكانت تتقن القراءة باللغة العربية لأنها عربية الأصل ؛ فلمّا رأت الخاتم ارتعدت وتوجّهت إلى قومها بقولها : { يا أَيُّهَا الْمَلأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ * إِنَّه مِنْ سُلَيْمانَ وإِنَّه بِسْمِ اللَّه الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وأْتُونِي مُسْلِمِينَ } النمل آية 29 ، 30 ،31 .
لنتأمل في ذكاء هذه الملكة وحنكتها ! لماذا وصفت الكتاب بأنه كريم ؟ يقول المفسرون : لأنه عميق المضمون رغم وجازته ، وقيل لحسن خطّه ، أو لوصوله بطريقة إعجازية غير مألوفة ، أو لأنه كان مختوماً ، وكما ورد عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- : ( كرم الكتاب ختمه ) ، أو لأن سليمان (عليه السلام) بدأه بالبسملة ، وربما لأنها كانت قد سمعت بسليمان ووصلتها أنباء ملكه العظيم ؛ وهذا ما يؤكده قولها فيما بعد : { وأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها } ، وربما لهذه الأسباب جميعاً المهم أنها ذكية ولمّاحة ولم تَفُتْها هذه الإشارات .

-كيف تعاملت الملكة مع الرسالة ؟

المضمون الموجز للرسالة يدل على إقدام سليمان ، وعزمه الشديد بشأن مدينة سبأ ، ولذا توجهت الملكة بالكلام إلى الموجودين حولها من الوزراء والأشراف والجند : { يا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ } النمل آية 32 
طلبت المشورة والفتوى منهم والتي تعني الحكم الدقيق والصحيح في المسائل الغامضة والدقيقة ؛ فهي وإن كانت الملكة ، وأعلى سلطة في البلاد إلا أنها لا تنفرد بالقرار، ولا تقطع بأمر مهم إلا بعد حضورهم واستشارتهم ، يقول المفسرون : كان أهل مشورتها ثلاثمائة وثلاثة عشر من القادة ، وتحت أمرة كل قائد عشرة آلاف من الجند ؛ ولأنهم معتدّون بما يملكون من إمكانات عسكرية من ناحية الكم والنوع لذا ردوا عليها : { نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ } ، لقد مالوا للخيار العسكري،والمواجهة الحربية لأنهم رجال حرب ومعارك ولكنهم فوّضوا القرار النهائي وحسم الموقف إليها فقالوا : { والأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ماذا تَأْمُرِينَ } النمل آية 33

- الملكة ترفض الخيار العسكري وتطرح البدائل:
رفضت رأيهم بالمواجهة العسكرية - رغم إنه رأي الأكثرية - فهي تكره الحرب ، وما تجرّه على البلاد من ويلات ومفاسد ؛ لذا قالَتْ : { إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وكَذلِكَ يَفْعَلُونَ } النمل آية 34، فالملوك يقتلون ويأسرون ، ويخرّبون البلاد العامرة ، وينهبون ثرواتها ويذلّون عزيزها ، لقد كانت عارفة بنفسية الملوك وسيرتهم التي لا تنطوي إلا على التخريب والإفساد وإذلال الأعزاء ؛ فهي لا تريد التورط بحرب لا تدري عواقبها ونتائجها ولذا صدقها القرآن بقوله :{ وكَذلِكَ يَفْعَلُونَ } ، أي الأمر كما قالت .
بعد رفض الملكة للخيار الحربي أرادت التأكد من سليمان وحقيقة نواياه ؛ فكانت فكرتها أن ترسل له هدية لمعرفتها بنفسية الملوك ، وولعهم الشديد بالهدايا التي تُعتبر نقطة ضعفهم ، فإذا قبلها فهو ملك ، وإذا رفضها فينبغي عليها التصرف بحكمة وعقل فطرحت فكرتها قائلة :{ وإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ } النمل آية 35 .
اختلفت أقوال المفسرين بالهدية والبعض بالغ في وصفها مبالغة كبيرة ويكفينا أن نعرف أن القرآن ذكرها بصيغة النكرة تعظيماً لشأنها .
ثم قالت الملكة للرسول إذا دخلت على سليمان فانظر إليه ، فإن نظر إليك نظرة غضب فاعلم أنّه ملك ، فلا يهولنّك أمره فإنّا أعزّ منه ، وإن نظر إليك نظر لطف فاعلم أنّه نبيّ مرسل .
رفض نبي الله سليمان (عليه السلام) الهدية قائلاً : { أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللَّه خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَل أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ } النمل آية 36، بل وبّخهم مشيراً إلى ما منحه الله من نبوة، وملك ، وعلم ومن أجل أن يريهم موقفه الحاسم قال للرسول: { ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها ولَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وهُمْ صاغِرُونَ } النمل 37 .

-خطة سليمان (عليه السلام:

عاد رُسُل الملكة خائبين بعد أن رفض سليمان هديتهم ، وبعدما شاهدوه من عظيم ملكه ، وجهاز حكومته المعجز ، فكل مشاهداتهم تدل على أنه ليس ملكاً كباقي الملوك ؛ بل هو نبيّ مُرسل من الله تعالى ، وأنهم – مهما بلغت إمكاناتهم المادية والعسكرية – لن يستطيعوا هزيمته ؛ لذا قررت الملكة الحكيمة أن تذهب إليه بنفسها مع وفد من أشراف قومها ، وعلم سليمان (عليه السلام) بخبر مجيئها فقرر إحضار عرشها ( العظيم ) قبل وصولها ليريها ما يملك من قدرة فتذعن وتسلّم لأمره ، كما أمر أن ينكّروه لها ، ويغيّروا من مظهره ليختبر عقلها ودرايتها ليتمكن من تحديد المنطق الذي يواجهها به ، وبالتالي تتهيأ الأرضية المناسبة لإيمانها . 
حضرت الملكة ، وسُئلت { أَهكَذا عَرْشُكِ } ولم تسأل ( أهذا عرشك ) حتى لا يكون نوعاً من التلقين فيضيع بذلك الهدف من الاختبار .
كان جواب الملكة غاية في الدقة والذكاء مما يكشف عن رجاحة وكمال عقلها ؛ قالت : { كَأَنَّه هُوَ} ، فلو قالت نعم لخالفت الاحتياط ؛لأنها وجدته متغيراً ، ولأنها كما تقول الروايات أودعته غرفة مغلقة في قصرها محاطة بعدد كبير من الحرس، كما إن مجيئه إلى أرض سليمان لم يكن في حدود قدرة البشر ، إلا أن يكون وراء الأمر معجزة فاحتمال أن يكون عرشاً يشبهه ،ولم تقل لا لأنها عرفت عرشها بما فيه من علامات مميزة رغم تنكيره ، ثم أردفت مباشرة : { وأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وكُنَّا مُسْلِمِينَ } النمل آية 42 ،فلقد أدركت كمال قدرة اللَّه ، وصحّة نبوّة سليمان من خلال مجيء الهدهد بالرسالة ، وما أخبرها به الوفد الذي أرسلته من عظمة ملكه وسلطانه ، وأخيراً من خلال مشهد إحضار العرش؛ فهي تريد أن تقول إننا مؤمنون بك منذ ذلك الوقت ، وبعدما رأت الملكة الحكيمة من علامات ودلائل فها هي في طريقها نحو حياة جديدة ، حياة مملوءة بنور الإيمان واليقين . 
في نهاية القصة نجد أن نبي الله سليمان (عليه السلام) يأمر أن يُبنى للملكة قصراً من زجاج شفاف ، وأن يُجرى الماء من تحت إحدى قاعاته ، ويوضع في الماء الأسماك والحيوانات البحرية ؛كان يقصد من تلك المظاهر كلها أن يعطي الملكة الأدلة على أن سلطانه مستند إلى قوة إلهية لا محدودة فتذعن للحق وتؤمن ،وهذا ما حصل فعلاً إذ تنتهي القصة باعترافها بالظلم لنفسها ،ثم إسلامها : { قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّه رَبِّ الْعالَمِينَ } النمل آية 44 .
إن القرآن الكريم يبين في قصصه أحوال الأنبياء مع الحكّام والطواغيت والأمم ، فكثير من الأنبياء جاءوا بالوعد والوعيد لحكام عصرهم فلم يؤثر،ولكن النبي سليمان (عليه السلام) أرسل رسالة إلى امرأة حاكمة فيها وعد ووعيد فتهيأت لقبول الحق مع امتلاكها قوة لا تقل عن الملوك الآخرين ، في قصة الملكة (بلقيس) نلمس الفرق بين الشجاعة والتهور ، بين الخوف والاحتياط ، بين الجهل والحكمة ، لقد كانت هذه الملكة أعقل من كثير من الحكّام الرجال عندما سلّمت لدعوة الحق فحقنت بذلك دماء الأبرياء وأنقذت مملكتها من حرب مدمرة تهلك الحرث والنسل ، ونقلت قومها من عبادة الشمس إلى عقيدة التوحيد . 
المصادر:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- القرآن الكريم
2- تفسير الميزان / السيد الطابطبائي
3- تفسير مجمع البيان / الشيخ الطبرسي
4- تفسير البحر المحيط/ أبي حيان الأندلسي
5- تفسير الأمثل / الشيخ ناصر مكارم الشيرازي 
6- جلال المرأة وجمالها / الشيخ جوادي آملي
  خديجة أحمد موسى