موقف القرآن الكريم من الإشاعة

 

ﺍﻹﺷﺎﻋﺔ ﻫﻲ ﻧﺸر ﺃﺧﺒﺎﺭ ﻣﺸﻜوﻙ ﻓﻲ ﺻﺤﺘﻬﺎ ﺗﺘﻌﻠق ﺑﻜﺎﻓﺔ ﻧوﺍﺣﻲ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ ، ﻭﻻﺑد ﺃﻥ ﻳﻜوﻥ ﻟﻬﺎ ﻣوﺿوﻉ ﺫﻭ ﺃﻫﻤﻴﺔ ﻭﻏﻤوﺽ ﻟدﻯ ﺍﻷﻓرﺍﺩ ﺍﻟﻘﺎﺑﻠﻴن ﻟﺘﺼدﻳﻘﻬﺎ ﻭﺍﻟﻤﺘﻔﺎﻋﻠﻴن ﻣﻌﻬﺎ ﺣﺘﻰ ﺗﻨﺘﺸر ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻊ ، وهي من ﺍﻟظوﺍﻫرﺍﻟﺘﻲ ﺗﺼدﻯ ﻟﻬﺎ ﺍلإﺳﻼﻡ ﻧظرﺍً لآثارها على ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻊ ، وﺗﻬﺩيدها ﻷﻣنه واستقراره وﺑثها لروح التنافر والفرقة بين ﺃﻓرﺍﺩه وإن هذا التهديد مستمر والمجتمعات في معرض الابتلاء به دائماً ، ﻟذﺍ ﻳُﻌد ﻣوﺿوﻉ ﺍﻹﺷﺎﻋﺔ ﻣن ﺃﻫم ﺍﻟﻤوﺿوﻋﺎﺕ ﺍﻟﺘﻲ ﺍﻫﺘم ﺍﻟﻘرﺁﻥ ﺍﻟﻜرﻳم ﺑﻬﺎ ﻣن ﺧﻼﻝ الكثير من آياته  ﻓﻜﺸف ﺩﻭﺍﻓﻊ المروجين للإشاعات ﻭﺃﻫدﺍﻓهم ، ﻭﺭﺑط ﺫﻟك ﺑطبيعة ﺍﻟﺼرﺍﻉ ﺍﻟذﻱ ﻳﺨوﺿﻪ ﺍﻹﺳﻼﻡ ، ﻛﻤﺎ ﺷﺨـّص ﺍﻟﻘرﺁﻥ ﺍﻟﻜرﻳم ﻧﻘﺎﻁ ﺍﻟﻀﻌف ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻊ ﺍﻹﺳﻼﻣﻲ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻨﺘﺸر ﻋن طرﻳﻘﻬﺎ ﺍﻹﺷﺎﻋﺎﺕ، ﻭﺍﻋﺘﻤد ﺍﻟﻘرﺁﻥ ﻣﻨﻬﺠﺎً ﻭﻗﺎﺋﻴﺎً ﻣحكماً ﻣن ﺧﻼﻝ ﺑﻨاء الفرد بناﺀاً ﺳﻠﻴﻤﺎً ﺑﻌﻴدﺍً ﻋن ﻛل ﺍﻟﻤؤﺛرﺍﺕ ﺍﻟدﺍﺧﻠﻴﺔ ﻭﺍﻟﺨﺎﺭﺟﻴﺔ .

-حديث الإفك المثير  

من الآيات التي تحدثت عن الإشاعة وتأثيرها ، وكيف تصدى القرآن لمعالجتها  آيات قصة الإفك التي وردت في سورة النور من آية (11) إلى  آية( 17 )، وهناك اختلاف في سبب نزول آيات الإفك بين مفسري الشيعة ، والعامة ، فالعامة رووا أنها نزلت في عائشة ، وما رُميت به في غزوة بني المصطلق ، والشيعة رووا أنها نزلت في مارية القبطية وما رمتها به عائشة ، وليس مهماً معرفة سبب النزول بقدر معرفة أهمية الموضوع الذي عالجته الآيات وهو أن المنافقين اتخذوا من الإشاعة وسيلة لتشويش الأفكار والإخلال بالمجتمع الإسلامي وإثارة الاضطراب فيه.

 

-ماذا تعني كلمة إفك ؟ 

كلمة ( الإفك ) يقصد بها كل شيء مصروف عن وجهه الذي يحق له أن يكون عليه ، ثم أطلقت على كل كلام منحرف عن الحق ، ومن ذلك يطلق على الكذب ( إفك ) ، ويرى  الطبرسي  في (مجمع البيان) أن الإفك لا يطلق على كل كذبة ، بل الكذبة الكبيرة التي تبدل الموضوع عن حالته الأصلية ، ومن هذا نفهم أهمية الموضوع الذي تناولته الآيات .

- من الذي بدأ الإشاعة ؟

 الآية الأولى في البحث : ( إنَّ الذين جاؤوا بالإفك عصبةٌ منكم لا تحسبوه شراً لكمْ بل هو خيرٌ لكم لكلِّ امرئٍ منهم ما اكتسبَ من الإثمِ والذي تولّى كبْرهُ منهم له عذابٌ عظيم ) النور آية (11)  ... تذكر الآية أن الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم ، وكلمة العصبة مشتقة من العصب ، وجمعها أعصاب ، وهي التي تربط عضلات الجسم بعضها مع بعض على شكل شبكة منتشرة في الجسم ، ثم أطلقت كلمة عصبة  على مجموعة من الناس متحدة وذات عقيدة واحدة ، واستعمال القرآن لهذه الكلمة يكشف عن الارتباط الوثيق بين المتآمرين المشتركين في ترويج حديث الإفك حيث كانوا يشكلون شبكة قوية منسجمة ومستعدة لتنفيذ المؤامرات .
وقال بعض : إن هذه المفردة تستعمل في عشرة إلى أربعين شخصاً ، إن القرآن يريد أن يبين أن اختلاق هذه الكذبة العظيمة كان عملاً مقصوداً يرمي إلى الإساءة إلى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وانتهاك حرمته ، وعلى كل حال فإن القرآن هدّأ روع المؤمنين الذين آلمهم توجيه هذه التهمة إلى شخصية مطهرة بقوله : ( لا تحسبوه شراً  لكم بل هو خير لكم ) ، فالمروجون لحديث الإفك لم يحققوا النتائج التي سعوا إليها  ، بل إن هذه القصة - رغم مرارتها - كشفت عن حقيقتهم وعدائهم المستور ، ولو لم تكن هذه الحادثة ؛ لما افتضح أمرهم بهذا الشكل ، ولكانوا أكثر خطراً على المسلمين ، هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن هذا الحادث علّم المسلمين أن عليهم الوقوف أمام مروّجي الإشاعة  بقوة وحزم  ، وأن لا يسمحوا للعدو أن يستغلهم كأداة إعلامية يمرِّر من خلالهم أكاذيبه ومؤامراته ، كما علمهم درساً آخر وهو النظر إلى الجوانب الإيجابية حتى في الحوادث المؤلمة . 
 

الجميع مشترك في المسؤولية             
ثم تعقب هذه الآية بذكر مسألتين : أولاهما : لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم إشارة إلى أن المسؤولية الكبرى وإن كانت تقع على عاتق كبار المذنبين إلا أن هذا لا يعني أن الآخرين لا يحملون جزء من هذه المسؤولية .
والمسألة الثانية : والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم قال بعض المفسرين : إن المقصود هو ( عبد الله بن أبي سلول ) قائد أصحاب الإفك ، أو أشخاص غيره ذُكروا كمصاديق لهذا الخطاب ، وعلى كل حال فإن الذي نشط في هذا الحادث أكثر من الآخرين ، وأضرم نار الإفك هو قائد هذه المجموعة الذي سيعاقب عقاباً عظيماً لكبر ذنبه .

-عتاب ولوم للمسلمين :
( لولا إذْ سمعتموهُ ظنَّ المؤمنونَ والمؤمناتِ بأنفسهِم خيراً وقالوا هذا إفكٌ مبين ) النور آية( 12) توجهت الآية بالعتاب للمؤمنين الذين انخدعوا بهذا الحديث فوقعوا تحت تأثير الشائعات ، فلامَتْهم بشدة .

لولا : بمعنى (هلاّ) إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً ، وقالوا إن هذا الكلام إفك واضح كما يقول أي شخص عندما يكون متيقناً ومطَّلِعاً على حقيقة الأمر ؟

فلماذا لم تقفوا في وجه المنافقين بقوة ، فتحبطوا أهدافهم ومخططاتهم ؟

بل استمعتم إلى أقوالهم التي مسّت مؤمنين آخرين كانوا بمنزلة أنفسكم منكم ، ولماذا لم تدفعوا هذه التهمة ، وتقولوا بأن هذا الكلام كذب وافتراء ؛ لذا فإنكم تستحقون اللوم والتأنيب .

ومما يلفت النظر أن الآية تقول : ( ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً ) أي لماذا أسأتم الظن بأنفسكم ؟

إشارة إلى أن أنفس المؤمنين كنفس واحدة ، كما إنه تعبير المؤمنين والمؤمنات يدل على أن النساء والرجال سواء في المسؤولية  بعد أن جمعهم الإيمان ، فإذا اتهم أحدهم فكأن التهمة موجهة إليه ، فهل من المعقول أن يذيع الإنسان تهمة وُجِّهت إليه ؟

وهكذا يجب أن يهبّ المسلم للدفاع عن إخوته وأخواته في الدين مثلما يدافع عن نفسه .

-ما هو الموقف الشرعي من الإشاعة ؟ 
( لولا جاؤوا عليه بأربعةِ شهداءَ فإذ لم يأتوا بالشهداءِ فأولئك عند الله همُ الكاذبون ) النور آية( 13) في الآية السابقة  كانت الملامة ذات طابع أخلاقي ومعنوي ، أما هذه الآية  فتهتّم بالجانب القضائي والشرعي للمسألة  فالتكليف واضح وعلى من يستمع إلى شخص يتهم شخصاَ آخر أن يطالبه بالبينة الشرعية وإلا هو كاذب في اتهامه ويستحق إقامة الحدّ الشرعي عليه . 
وأخيراً جمعت الآية التالية هذه الملامات ، فقالت : ( ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسّكم فيما أفضتم فيه عذابٌ عظيمٌ ) النور آية (14) كلمة ( أفضتم ) مشتقة من الإفاضة بمعنى خروج الماء بكثرة مما يدل على أن الإشاعة توسعت بشكل كبير وأن الناس قد خاضوا فيها وانهمكوا إلى حد كبير .
 - سبب انتشار الشائعة التساهل ، وقلة الوعي:  
( إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم ولا تحسبونه هيّناً هوَ عندَ اللهِ عظيم ) النور آية (15) تبين هذه الآية كيف ابتُلي المؤمنون بهذا الذنب العظيم نتيجة تساهلهم ، وتشير إلى ثلاثة ذنوب عظيمة في هذا المجال :
الأول : استقبال الإشاعة وتناقلها .
الثاني : نشرها دون أي تحقيق أو علم بصدقها .
الثالث : استصغارها واعتبارها وسيلة للهو وقضاء الوقت .

يقول المختصون في مجال حرب الإشاعة : إن الإشاعة تبدأ بمصدر وهو الذي يقوم ببنائها ثم نشرها لأغراض معينة ، وهناك متلقي الإشاعة وناشرها وهي تنتشر دائماً في المجتمعات التي تتميز بضعف وعيها السياسي والثقافي ، والشرط الأساسي لانتشارها هو انعدام المعرفة ... وجميع هذه الملاحظات أشارت إليها الآية الكريمة .

 -الإشاعة يجب أن تُدفن في مهدها: 

( ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم ) النور آية (16) تعود الآية إلى تأنيب المسلمين مرة أخرى ، وتطلب منهم ليس فقط عدم التكلم بموضوع الإشاعة ونشرها ، بل تكذيبها بقوة : ( سبحانك هذا بهتان عظيم ) أي تعجب ممن يقول ذلك ، كما يجب رد الكلام ووصفه بأنه  كذب وزور .
  

أخذ الدرس من التجارب:

(يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين * ويبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم ) النور آية (17، 18 ) تقول الآيتان الأخيرتان في البحث : إن الله تعالى ينهى المؤمنين من العودة إلى هذا الذنب العظيم  أبداً أي ما دموا أحياء ، فلا يكفي  الندم على أخطاء الماضي ، بل يجب أخذ الموعظة والدرس مما جرى ، والتصميم على عدم تكرار الأخطاء نفسها مستقبلاً ، وعليهم أن يدركوا أن أحكام الله تعالى صادرة عن علم وحكمة فهو تعالى عالم بما يضرهم وما ينفعهم .

من البحث السابق يتبين لنا اهتمام القرآن بمسألة الإشاعة بوصفها إحدى وسائل الحرب النفسية التي يستعملها الأعداء في إشاعة الاضطراب ، وإشغال الناس عن قضاياهم الحساسة ؛ ليتسنى لهم التغلب العسكري ، وكما تستتعمل الإشاعة كسلاح في الحروب ، فإنها تستعمل في أوقات السلم أيضاً لغرض الانتقام أو تصفية الحسابات ، أو إزالة الثقة عن الشخصيات الكبيرة والمؤثرة في المجتمع كما في قصة الإفك ومحاولة المنافقين المساس بسمعة النبي( صلى الله عليه وآله وسلم) والحط من شأنه المقدس لدى الناس وقد عالج القرآن هذا الموضوع الخطير من خلال النقاط التالية: :

الأولى :كل أفراد المجتمع يتحملون مسؤولية انتشار الإشاعة ، وإن كان الوزر الأكبر يقع على من بدأها. . 
الثانية:يجب أن تشيع روح الثقة وحسن الظن بين المؤمنين نساء ورجالاً ، فلا يصدقون كل ما يشاع على بعضهم بعضاً 
الثالثة: عليهم مطالبة من يتهم الآخرين بالبينة وإلا فهو كاذب ويستحق العقاب.

الرابعة:إن الخوض في الإشاعات وترويجها يصيب المجتمع بالاضطراب والآلام والأزمات

الخامسة:عدم استصغار موضوع الإشاعة ، بل النظر إليه كذنب عظيم 
السادسة:الحذر والحرص الشديد من الوقوع في الأخطاء نفسها ، وأخذ الدروس والعبر من التجارب المؤلمة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصادر: 
القرآن الكريم 
تفسير مجمع البيان / الطبرسي   التفسير الأصفى / الفيض الكاشاني 
تفسير الامثل / الشيخ ناصر مكارم الشيرازي 
الروح والنور في القرآن الكريم / مرتضى مطهري 
  خديجة أحمد موسى

المصدر: موقع العتبة الحسينية المقدسة