شرح وتفسير سورة التين

                     

                                          بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيِمْ

{وَالتّينِ وَالزّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ *ثُمّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلّا الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ * فَمَا يُكَذّبُكَ بَعْدُ بِالدّينِ * أَلَيْسَ اللّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} 8 التين

الشرح والتفسير:

  الواو هنا واو القسم ، والمقسم به هنا أربعة أشياء وهي: التين  والزيتون وطور سيناء , مكة المكرمة.

 واختلف المفسرون، هل المقصود به ثمار التين والزيتون أو بلاد التين والزيتون؟

   إذا أردنا التناسب فإن طور سيناء ومكة المكرمة مكانان أقسم بهما الله تعالى ، فلا بد أن يكون المقصود بلاد التين والزيتون لا ثمارهما ، حتى القسم بأمكنة مقدسة ، ولا يكون بثمار ومكان ؟

 وقد ذكرت روايات أهل البيت عليهم السلام أن المقصود بالتين والزيتون أمكنة وليس الثمار ، ففي الخصال/225، عن الإمام الكاظم عليه السلام قال: (قال رسول الله‘: إن الله تبارك وتعالى اختار من كل شئ أربعة: اختار من الملائكة جبرئيل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت عليهم السلام.

 واختار من الأنبياء أربعة للسيف: إبراهيم و داود وموسى وأنا.

  واختار من البيوتات أربعة فقال: إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين.

  واختار من البلدان أربعة فقال عز وجل: والتين والزيتون وطور سينين وهذا البلد الأمين. فالتين المدينة ، والزيتون بيت المقدس. وطور سينين الكوفة ، وهذا البلد الأمين مكة.

 واختار من النساء أربعاً: مريم وآسية وخديجة وفاطمة عليهن السلام .

  واختار من الحج أربعة: الثج والعج والإحرام والطواف ، فأما الثج فالنحر ، والعج ضجيج الناس بالتلبية.

 واختار من الأشهر أربعة: رجب وشوال وذو القعدة وذو الحجة.

 واختار من الأيام أربعة: يوم الجمعة ، ويوم التروية ، ويوم عرفة ، ويوم النحر).

   فالمقصود بلاد التين والزيتون ، وهي مكة والمدينة والعراق وبلاد الشام ، وهي التي شهدت أهم جهود الأنبياءعليهم السلام لهداية الإنسان.

والمعنى: أقسم بهذه الأمكنة التي شهدت أعظم الجهود لهداية الإنسان ، أنا خلقنا الإنسان في أحسن وجه وفي أحسن تقويم عقلاً وبدناً وروحاً ، ولكنه لم يستفد من ذلك فصار في أسفل سافلين ، أي رددناه باستحقاقه أسفل سافلين ، وهو كقوله تعالى: وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا. (الإسراء:16).  أي أمرناهم فعصوا وفسقوا فدمرناهم.

  ثم قالت الآية: فما يكذبك بعدُ بالدين ، أي لاشئ يستطيع أن ينكر الدين ، لأنه قانون التناقص والتكامل ، العامل في كل الناس ،  فلا يستطيع أحد أن يردَّه. فالدين ضرورة قائمة ورفضه ومخالفته تعني الإنتكاس إلى أسفل سافلين.

  وصاحب القانون هو الله تبارك وتعالى ،  هو أحكم الحاكمين ، يحكم البشر بقانون الدينونة ويحكم بينهم بنتيجته.

  فيجب على الإنسان أن ينسجم مع هذا القانون ، ولا يتمرَّد عليه.

جهود الأنبياء عليهم السلام في بلاد التين والزيتون

  يظهر أن آدم   عليه السلام كان يتردد إلى وادي الرافدين ، لكن المؤكد أن أولاده سكنوا فيها ، وأنها كانت عاصمة الأنبياء الكبار بعده وهم إدريس ونوح وإبراهيم عليهم السلام.

 ويظهر أن إبراهيم وأبناءه عليهم السلام عندما هاجروا الى فلسطين ، نقلوا أسماء مناطق من العراق وسموا بها أماكن هناك ، مثل طور سينين ، والقدس.

   كما كان إبراهيم عليه السلام يزور العراق بعد أن هلك نمرود الذي نفاه من العراق ، وأسس فيه مسجد الكوفة والسهلة والنخيلة ، واشترى فيه أرض القادسية والنجف وكربلاء.

 

قداسة العراق العريقة

 

  ففي علل الشرائع:2/585 ، عن علي عليه السلام قال: « إن إبراهيم صلى الله عليه مر ببانقيا فكان يزلزل بها فبات بها ، فأصبح القوم ولم يزلزل بهم فقالوا: ما هذا وليس حدث! قالوا: نزل هاهنا شيخ ومعه غلام له.

  قال: فأتوه فقالوا له: يا هذا إنه كان يزلزل بنا كل ليلة ولم يزلزل بنا هذه الليلة فبت عندنا ، فبات فلم يزلزل بهم ، فقالوا: أقم عندنا ونحن نجري عليك ما أحببت. قال: لا ، ولكن تبيعوني هذا الظهر ولا يزلزل بكم! فقالوا: فهو لك ، قال: لا آخذه إلا بالشراء فقالوا: فخذه ما شئت ، فاشتراه بسبع نعاج وأربعة أحمرة ، فلذلك سمي بانقيا ، لأن النعاج بالنبطية نقيا قال: فقال له غلامه: يا خليل الرحمن ما تصنع بهذا الظهر ليس فيه زرع ولا ضرع ؟

  فقال له: أسكت فإن الله تعالى يحشر من هذا الظهر سبعين ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ، يشفع الرجل منهم لكذا وكذا).

  وقال ابن إدريس في السرائر:1/479: ( بانقياء هي القادسية وما والاها وأعمالها ، وإنما سميت القادسية بدعوة إبراهيم الخليل عليه السلام لأنه قال: كوني مقدسة للقادسية ، أي مطهرة من التقديس. وإنما سميت القادسية بانقيا لأن إبراهيم اشتراها بمائة نعجة من غنمه لأن با: مائة ، ونقيا: شاة ، بلغة النبط. وقد ذكر بانقيا أعشى قيس في شعره ، وفسره علماء اللغة وواضعوا كتب الكوفة من أهل السيرة بما ذكرناه ».

  قال الحموي في معجم البلدان:1/331:  « وخرج حتى أتى النجف فلما رآه رجع أدراجه أي من حيث مضى ، فتباشروا وظنوا أنه رغب فيما بذلوا له فقال لهم: لمن تلك الأرض ، يعني النجف ؟ قالوا: هي لنا قال: فتبيعونيها ؟ قالوا: هي لك فوالله ما تنبت شيئاً! فقال لا أحبها إلا شراء ، فدفع إليهم غنيمات كن معه بها ، والغنم يقال لها بالنبطية نقيا ، فقال: أكره أن آخذها بغير ثمن ، فصنعوا ما صنع أهل بيت المقدس بصاحبهم ، وهبوا له أرضهم فلما نزلت بها البركة رجعوا عليه! وذكر إبراهيم أنه يحشر من ولده من ذلك الموضع سبعون ألف شهيد ، فاليهود تنقل موتاها إلى هذا المكان ، لهذا السبب. ولما رأى غدرهم به تركهم ومضى نحو مكة ، في قصة فيها طول ، وقد ذكرها الأعشى).

أقول: معنى ذلك أن إبراهيم بعد أن أسس لذريته القدس في فلسطين ، وجدد الكعبة في الحجاز ، جاء إلى العراق وأسس لهم القادسية ومسجد الكوفة ومسجد السهلة ومسجد النخيلة ، ولا يمكن كشف الحكمة من هذه الأماكن المقدسة الثلاثة ، بدون ربطها بآل إبراهيم وخاصة بولده المهدي الموعودعجل الله تعالى فرجه الشريف.

ومما يؤيد ذلك أن علياًعليه السلام جدد شراء ظهر الكوفة والغريين ، تأكيداً لشراء جده إبراهيم حتى لا يدعيها أحد!

ففي الغارات للثقفي: 2/845: « اشترى أمير المؤمنين عليه السلام  ما بين الخورنق إلى الحيرة إلى الكوفة. وفي رواية أخرى: ما بين النجف إلى الحيرة إلى الكوفة من الدهاقين بأربعين ألف درهم وأشهد على شرائه ، فقيل له في ذلك ؟ فقال: سمعت رسول الله‘يقول: كوفان يُرَدُّ أولها على آخرها ، يحشر من ظهرها سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب! فاشتهيت أن يحشروا من ملكي).

وفي أخبار إصبهان:2/174: « اشترى علي بن أبي طالب رضي الله عنه ما بين الخورنق إلى الحيرة بأربعين ألفاً من دهاقين الخورنق ، فقيل له يا أمير المؤمنين اشتريت حجراً أصم لا ينبت شيئاً ؟ قال: صدقتم ، إني سمعت رسول الله..الى آخر الحديث)

وروى ابن سعد: 3/167 ، أن الصحابي خباب بن الأرت أوصى أن يدفن في ظهر الكوفة ، لما سمعه من النبي‘.

القادسية تشمل الكوفة والنجف والنخيلة

 

  والظاهر أن المنطقة التي اشتراها أمير المؤمنين عليه السلام من النجف إلى الحيرة إلى الكوفة ، تتضمن القادسية التي اشتراها جده إبراهيم’.

  فالقادسية هي منطقة تشمل النجف والكوفة إلى قرب الحيرة ، ويوجد فيها قرية تسمى القادسية ، ومكان يسمى قَادِس ، ومكان يسمى قَدِيس. (كتاب الحيرة للدكتور حسن الحكيم/53).

بل إن القادسية تشمل مسجد النخيلة في ذي الكفل ، الذي أسسه إبراهيم عليه السلام.

  وقد نصت أحاديث السنة والشيعة أن إبراهيم عليه السلام أسس مسجد الكوفة ، ففي أمالي الصدوق/298: « عن الأصبغ بن نباتة قال: بينا نحن ذات يوم حول أمير المؤمنين عليه السلام في مسجد الكوفة إذ قال: يا أهل الكوفة ، لقد حَبَاكم الله عز وجل بما لم يَحْبُ به أحداً ، ففضل مصلاكم ، وهو بيت آدم ، وبيت نوح ، وبيت إدريس ، ومصلى إبراهيم الخليل، ومصلى أخي الخضر ، ومصلاي.

وإن مسجدكم هذا أحد الأربعة مساجد التي اختارها الله عز وجل لأهلها ، وكأني به يوم القيامة في ثوبين أبيضين شبيه بالمحرم يشفع لأهله ولمن صلى فيه فلا ترد شفاعته. ولا تذهب الأيام حتى ينصب الحجر الأسود فيه!

  وليأتين عليه زمان يكون مصلى المهدي من ولدي ، ومصلى كل مؤمن ، ولا يبقى على الأرض مؤمن إلا كان به أو حنَّ قلبه إليه ، فلا تهجروه وتقربوا إلى الله عز وجل بالصلاة فيه ، وارغبوا إليه في قضاء حوائجكم ، فلو يعلم الناس ما فيه من البركة ، لأتوه من أقطار الأرض ، ولو حبواً على الثلج).

  وفي كامل الزيارات/78: « عن عائشة قالت: سمعت رسول الله‘يقول: عرج بي إلى السماء ، وإني هبطت إلى الأرض فأهبطت إلى مسجد أبي نوح عليه السلام وأبي إبراهيم وهو مسجد الكوفة فصليت فيه ركعتين ، قال ثم قالت: قال رسول الله‘: إن الصلاة المفروضة فيه تعدل حجة مبرورة ، والنافلة تعدل عمرة مبرورة).

قال ابن إدريس في السرائر:1/422: « مسجد إبراهيم عليه السلام هو مسجد الكوفة ، ذكر ذلك في كتاب الكوفة ».

  وقد تكون مساحته بالأصل أكبر ، ففي الكافي:4/543، عن الإمام الصادق عليه السلام قال: « إن القائم إذا قام رد البيت الحرام إلى أساسه ، ومسجد الرسول إلى أساسه  ومسجد الكوفة إلى أساسه. قال أبو بصير: إلى موضع التمارين من المسجد).

   كما  أسس إبراهيم عليه السلا مسجد السهلة:

  ففي من لا يحضره الفقيه: 1/232: «قال الصادق عليه السلام: لو استجار عمي زيد به لأجاره الله سنة ، ذلك موضع بيت إدريس عليه السلام الذي كان يخيط فيه ، وهو الموضع الذي خرج منه إبراهيم عليه السلامإلى العمالقة ، وهو الموضع الذي خرج منه داود إلى جالوت ، وتحته صخرة خضراء فيها صورة وجه كل نبي خلقه الله عز وجل ، ومن تحته أخذت طينة كل نبي. وهو موضع الراكب. فقيل له وما الراكب ؟ قال الخضر).

أقول: من الثابت أن قتال نبي الله داودعليه السلام لجالوت كان في فلسطين  وقد يكون جاء قبل ذلك إلى بابل وكوفان ، موطن أبيه إبراهيم عليه السلام                         

 حسين عبيد القريشي

دار القرآ ن الكريم

قم  المقدسة

   وكالة ق للأنباء القرآنية