الجذور القرآنية لظاهرة الحزن على الحسين عليه السلام

 

قال تعالى: (وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ ، قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنْ الْهَالِكِينَ ، قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنْ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) [1]

من المسائل التي أثير الجدل الواسع حولها عبر التاريخ وكانت من المواضيع التي شهدت خلافات كبيرة بين طوائف المسلمين واحتدم الصراع حولها  هي مسألة البكاء على الامام الحسين عليه السلام ، حيث كانت ولا زالت سهام النقد والاتهام يوجه إليها وإلى الثورة التي أطلقها الحسين بن علي عليه السلام يوم عاشوراء لتدخل التاريخ من أوسع أبوابه وتحدث تحولاً هائلاً في  تاريخ الامة الاسلامية ، ولكنها عانت ولا زالت من التشويه المتعمد والتضليل الاعلامي الممنهج، وقد أثبتت أنها أقدر على البقاء والدوام أمام عواصف النقد والتغييب ، وفيها القابلية على الخلود والاستمرار في مسايرة الحياة بمتغيراتها ،وأثبتت عمق التخطيط فيها وقوة المخطط لها ورؤيته الثاقبة للأحداث مما جعلها تكابر على كل المحاولات التي تدعو بحسب المعطيات الطبيعية إلى ذوبانها وضياعها كأي خبر في التاريخ.

وفي خضم الصراع القائم والدائم بين قوى الخير والشر والحق والباطل تتوالى الاتهامات الجزاف على مر التاريخ لاسيما في أيام مناسبة وقعة عاشوراء لتطفوا على المشهد الاعلامي في حملات دعائية صنفت ضمن إعلام حكومي موجه، وراحت وسائل الاعلام تزمر وتطبل تحت ذريعة عدم مشروعية الرثاء والبكاء على الحسين عليه السلام ،وليس لهذه الظواهر من شاهد من كتاب الله تعالى عليها لتحضى بمشروعية قرآنية، وأنها مخالفة للثوابت الإسلامية ،مضافاً إلى عدم حضارية هذه الممارسات ومسايرتها لواقع الحياة المعاصرة،  مع استغفال منهم للسنة النبوية في هذه الحملات الإعلامية وكأنها ليست مصدراً للتشريع الاسلامي.

ورغم اننا لا ننساق وراء هذه الابواق التي تسبّح بحمد الحكومات الجائرة ،ولا نؤمن بحصرية التشريع الاسلامي في القرآن الكريم ، إلا أننا في مقام دحض تلك الاباطيل والادعاءات الموهومة سنثبت مشروعية هذه الظاهرة من خلال كتاب الله تعالى ،لعل هذه الخطوة تسهم في رفع الغشاء عن أبصارهم ليستضيئوا بنور القرآن ويرجعوا إلى رشدهم ويتوقفوا عن مناصرة أعداء سبط رسول الله ومجابهة الحق وانصاره.

 وإليك بيان أهم الآيات التي يستدل بها على مشروعية البكاء وإقامة العزاء على سيد شباب أهل الجنة الحسين بن علي عليه السلام وندع باقي ما يستدل عليه إلى فرصة أخرى :

الدليل الاول:

 قوله تعالى: ( ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب)[2].

يتوقف الاستدلال بالآية القرآنية على بيان عدة جهات فيها:

الجهة الاولى: معنى الشعيرة في اللغة والاصطلاح

لمفردة الشعيرة في كلمات اللغويين عدة معان مختلفة نختصر على ذكر بعضها، منها : مناسك الحج ،: قال الفراهيدي في كتابه العين: والمَشْعَرِ: موضع المنسك من مشاعر الحج من قول الله: " فاذكُرُوا اللّهَ عندَ المَشْعَرِ الحَرامِ " وكذلك الشِّعارة من شعائرالحج، وشعائر الله مناسك الحج، أي: علاماته، والشّعيرة من شعائر الحج ، وهو أعمال الحج من السعي والطَّواف والذبائح ، كل ذلك شعائر الحجّ)[3].

ومنها البدنة :

قال الفراهيدي في كتابه العين: (والشعيرة أيضاً: البَدَنَةُ التي تُهْدَى إلى بيت الله، وجُمِعَتْ على الشَّعائر. تقول: قد أَشْعَرْتُ هذه البّدَنَةَ لله نُسْكا، أي: جعلتها شعيرة تُهْدَى. ويقال: إشعارها أن يُجَأَ أصل سَنامها بسِكّين. فيسيل الدَّمُ على جنبها، فيُعَرفُ أنّها بَدَنُة هَدْيٍ. وكَرِهَ قوم من الفقهاء ذلك وقالوا: إذا قلّدتَ فقد أشعَرْتَ)[4]

وجاء  في تاج العروس بهذا المعنى: ( والشَّعِيرَةُ : البَدَنة المَهداة ) ، سُمِّيَتْ بذلكلأَنّه يُؤَثَّر فيها بالعَلاَمَات )[5].

قال في الصحاح : والشعيرة : البدنة تهدى ، والشعائر : أعمال الحج ، و كل ما جعل علما لطاعة الله)[6]

ومنها: العلامة: ( شَعائِرُه : مَعالِمُه التي نَدَبَ اللَّهُ إِلَيْهَا ، وأَمَرَ بالقِيَام بِهَا ) ، كالمَشاعِر... وقال الزَّجَّاجُ في شعائِرِ الله : يعْنِي بها جَميعَ مُتَعَبَّدَاتِه التي أَشْعَرَها الله ، أَي جَعَلَهَا أَعلاماً لنا ، وهي كلُّ ما كان من مَوْقِفٍ أَو مَسْعًى أَو ذَبْحٍ ، وإِنّما قيل : شَعائِرُ لكُلّ عَلَمٍ ممّا تُعَبِّدَ به ؛ لأَنّ قَوْلَهُمْ : شَعَرْتُ به : عَلِمْتُه ، فلهاذا سُمِّيَتِ الأَعلامُ التي هي مُتَعَبَّداتُ اللَّهِ تعالى شَعَائِرَ . [7]

وفي لسان العرب: (والشَّعِيرة البدنة المُهْداةُ سميت بذلك لأَنه يؤثر فيها بالعلامات والجمع شعائر وشِعارُ الحج مناسكه وعلاماته وآثاره وأَعماله جمع شَعيرَة وكل ما جعل عَلَماً لطاعة الله عز وجل كالوقوف والطواف والسعي والرمي والذبح وغير ذلك)[8]        

وفي معجم مقاييس اللغة: (والشعِيرة: واحدة الشَّعائر، وهي أعلامُ الحجّ وأعمالُه. قال الله جل جلالُه:(إنَّ الصَّفَا وَالمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ) البقرة 158. يسيلَ الدّمُ فيُعلَم أنّها هَدْي)[9].

إذن الشعائر في اللغة تأتي بمعنى مواضع الحج، ومناسك وأعمال الحج، والبدنة، والعلامة .

وأما في الاصطلاح:

الشعائر في الاصطلاح لا تختلف عن بعض المعاني في اللغة، فيراد بها : العلامة الدالة على الله تعالى والموصلة اليه ويتعرف الانسان من خلالها على تعاليم الدين وأحكامه ، وبعبارة أن الشعائر هي دين الله الذي أمرنا بالتزامه حتى أصبح تعظيمها دليلاً على التقوى والايمان وهدرها وعدم تعظيمها دليلاً على ضعف الايمان وعدم التقوى ، ولا يمكن تخصيص الشعائر بما ذكر من البدن والهدي في الحج ومناسكه  لقوله تعالى: ( والبدن جعلناها لكم من شعائر الله)، فجعل البدن مصداقاً للشعائر مما يشعر إرادة ما هو أعم من مناسك الحج وعلاماته كما سيأتي توضيحه.

الجهة الثانية: حكم تعظيم الشعائر:

قد يقال بعدم إمكان استفادة وجوب تعظيم الشعائر بكافة أرداه من ظاهر الآية ،وهو الصحيح وغاية ما يستفاد رجحان تعظيم الشعائر في الشريعة ، نعم قد يستفاد الوجوب في الجملة من خلال طريقين:

أحداهما: ما يستفاد من بعض الروايات الدالة على وجوب تكريم أهل البيت عليهم السلام واحترامهم ومحبتهم وإظهار المودة لهم كما نطقت الآيات بذلك أيضاً، فإذا كان الاعراض عن الشعائر موجباً لهتكها وتضييعها وموجباً للازدراء بمقام الائمة عليهم السلام، فالشارع لا يسمح بتضييع مقاصده أو بهتك حرمة الاولياء ومكانتهم، وقد أكد الشارع على ضرورة احترام أهل البيت عليهم السلام ومودتهم بصريح آياته.

ثانيهما: إن تفريع الآية على تعظيم الشعائر بالتقوى في قوله : ( فإنها من تقوى القلوب) يشعر بوجوبها، إذ التقوى هو حماية النفس عن كل ما يضر بها من العقوبة، والوقاية بطاعة الله تعالى عن عقوبته، ولا شك أن هذا واجب شرعاً وعقلاً وقد صرحت الكثير من الآيات بوجوب لزوم التقوى في العمل كما في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[10]، وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ)[11]، وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا)[12].

ولذا قال بعض الفقهاء بذلك، فقد صرح السيد الخوئي (قدس سره ) في مصباح الفقاهة ما نصه: (قامت السيرة القطعية على جواز عقد الاندية والمجالس لتبليغ الاحكام واقامة شعائر الافراح والاحزان، بل على وجوبها في

بعض الاحيان إذا توقف عليها احياء الدين وتعظيم الشعائر)[13]

وعلى فرض وجوب التعظيم للشعائر فلا يمكن تعميمه على جميع مصاديق التعظيم لعدم قيام الدليل عليه، ومن المعلوم كفاية تحقيق بعض المصاديق أو مصداق واحد في تحقق الامر  كما لا يخفى، نعم تبقى جميع المصاديق الداخلة في مفهوم الشعائر ـــ دون ما لم يثبت مصداقاً للشعائر أو قام الدليل على خلافها ـــ راجحة شرعاً.

وربما يقال: أن سياق الآية يأبى حمل كلمة الشعائر على الدين وعلاماته وشواخصه ، ولكن إنما تثبت حجية السياق في مرتبة متأخرة عن إثبات معنى الكلمة لغوياً واستعمالياً، وقد ثبت أن للكلمة مدلولاً أوسع من البُدنه، خصوصاً مع ذهاب بعض المفسرين إلى ذلك وحمل قوله : (لكم فيها منافع) على الاجر والثواب، وقوله: ( البيت العتيق) على الجنة أو البيت المعمور أو رب البيت العتيق، مضافاً إلى ما سبق ذكره من قوله: ( والبدن جعلناها لكم من شعائر الله) وقوله: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ)[14]، بل هناك ما يفيد بأن الشعائر غير الهدي مضافاً لما مرّ، وإنما الهدي منها كقوله تعالى: (يا ايها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام)[15]، فإن جعل الهدي في مقابل الشعائر يشعر أن الهدي غير الشعائر بنحو المطابقة الكلية..

الجهة الثالثة: في بيان المراد من التعظيم

قد يتسائل البعض عن معنى التعظيم المشار إليه في الآية وما هي حقيقته؟

لا شك أن التقديس والتبجيل والحب العاطفي ليس إلا مصاديق لمفهوم التعظيم ،لاسيما إذا أمعنا النظر لوجدنا أن التعظيم في الآية هو تكليف شرعي مدعوم بآيات أخرى.

إن إكبار الحسين عليه السلام وتعظيمه يكون من خلال إشاعة قيمه وأخلاقه وهديه في المجتمعات والتأسي بأخلاقه ومبادئه التي قامت عليها ثورته، مضافاً إلى تعظيمه من خلال الاحتفال بذكراه وتجديد العزاء عليه ورثاءه وبكاءه وزيارته وعقد المؤتمرات والمحافل لدراسة مفردات ثورته وإعطاءها أبعاد عملية وواقعيه لتجد مبادئ الحسين عليه السلام وقيمه طريقها إلى الحياة.

ويبقى هاهنا تسائل مهم في تمامية الاستدلال بالآية لمشروعية البكاء وإقامة العزاء على الحسين عليه السلام وهو : من قال أن الحسين عليه السلام يعد معلماً من معالم الله وشعيرة إلهية ، ومن قال أن  البكاء على الحسين عليه السلام مصداقاً لشعائر الله تعالى، وكيف يمكن عد هذه الظواهر من الحزن مصداقاً للشعائر الالهية؟

والجواب:

كل ما يدل على الله تعالى فهو من معالم الدين ومن شعائر الله تعالى،والحسين عليه السلام هو عدل القرآن الكريم بمقتضى حديث الثقلين المتفق عليه بين المسلمين، فكل ما ثبت للقرآن ثبت للحسين  بحكم العدلية، فالقرآن معصوم من الزلل والحسين عليه السلام عصمه الله من الزلل وطهّره من الدنس وأذهب عنه الرجس وطهره تطهيراً بصريح القرآن الكريم، والقرآن يهدي للتي هي أقوم والحسين عليه السلام مصباح الهدى وسفينة النجاة ، والقرآن كتاب هداية والحسين  اهتدى به الكثيرون ولازالت الأفواج من الناس تدخل في دين الله تعالى ببركة هدي الحسين ونور ثورته، والقرآن ينطق بالحق والحسين قرآن ينطق بالحق والصدق وقد رفع شعار الحق في كربلاء، والقرآن يهدي إلى الرشد والحسين نبراس الهداية وداعية إلى الله تعالى، وهكذا سائر الأحكام والآثار، فهو شعيرة من شعائر الله تعالى لا يمكن أن يتدخلها الريب والشك.

كما أن  شخصية الإمام الحسين  تحضى بمكانة مرموقة في الدين وعند المسلمين ، فهو وريث جده والممثل لهديه وسمته، حتى قال الرسول | بحقه:(حسين مني وأنا من حسين)[16]، وهذا الحدث وغيره يبين لنا أن ما قام به الحسين  من نهضة إصلاحية في واقع الأمة الإسلامية وإنجاز فتح عظيم في دحر الجاهلية الثانية لم يكن مغايراً  للفتح الذي حققه الرسول الأعظم صلىّ اللله عليه وآله في المنهج والأهداف والمنطلقات، بل كان كلاهما يسيران باتجاه واحد ونحو هدف واحد، وكان الحسين  يحتل في نظر المسلمين مكانة عظيمة ، ويرونه أحق الناس برسول الله| وبالدين والخلافة من غيره، وقد أعلن عليه الصلاة والسلام منذ أول تحركه من المدينة عن أهدافه وغاياته في الدفاع عن الدين والإسلام وحفظ تعاليمه وتحقيق الإصلاح الذي ناشد بتحقيقه أنبياء الله تعالى ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومن أجل الحق والحرية ، حيث قال عليه السلام: (أَنِّي لَمْ أَخْرُجْ أَشِراً وَلَا بَطِراً وَلَا مُفْسِداً وَلَا ظَالِماً وَإِنَّمَا خَرَجْتُ لِطَلَبِ الْإِصْلَاحِ فِي أُمَّةِ جَدِّي ص أُرِيدُ أَنْ آمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَأَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ وَأَسِيرَ بِسِيرَةِ جَدِّي وأَبِيعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ع فَمَنْ قَبِلَنِي بِقَبُولِ الْحَقِّ فَاللَّهُ أَوْلَى بِالْحَقِّ وَمَنْ رَدَّ عَلَيَّ هَذَا أَصْبِرُ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ بَيْنِي وَبَيْنَ الْقَوْمِ بِالْحَقِّ وَ هُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ..)[17]، وقال أيضاً: (أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ قَدْ لَزِمُوا طَاعَةَ الشَّيْطَانِ وَتَوَلَّوْا عَنْ طَاعَةِ الرَّحْمَنِ وَأَظْهَرُوا الْفَسَادَ وَعَطَّلُوا الْحُدُودَ وَاسْتَأْثَرُوا بِالْفَيْءِ وَأَحَلُّوا حَرَامَ اللَّهِ وَحَرَّمُوا حَلَالَهُ وَإِنِّي أَحَقُّ بِهَذَا الْأَمْرِ)[18].

فقد دعا إلى الله وإلى الدين وخرج على أئمة الظلال والانحراف ليقيم اعوجاج الحق ويحمل الناس على طاعة الله ،فهو داعية الله ، ومن أبرز شعائره ومعالمه، وكيف لا يكون كذلك من أرخص نفسه في سبيل الدعوة إلى الله تعالى كما صرح : (أما بعد، فانه لم يشاقق الله ورسوله من دعا إلى الله عز وجل وعمل صالحا وقال: إنني من المسلمين)[19]، وقد أنار الطريق إلى الله بنور هديه وتعاليمه، وأصبح منهاجاً يستضاء بنوره وسفينة نجاة لمن أراد الهداية في حياته، 

وأن المتتبع لعموم الممارسات التي يقيمها محبي الحسين  وأهل بيته وأصحابه يدرك دون أدنى ريب أنها مصداق حقيقي ونموذج حي يقرّب مفهوم شعائر الله تعالى إلى واقع ملموس في كل وقت، وإن أدنى نظرة خالية من التعصب والأحكام المسبّقة للمحافل والمجالس التي تعقد على حب أهل البيت عليهم السلام تعطي انطباعاً واسعاً عن الاسلام الذي قامت من أجله ثورة الحسين عليه السلام ،فهي مجالس وعظ وارشاد وتذكير تعتمد المواضيع القرآنية والاخلاقية والدينية والاجتماعية والعقائدية وتعمل على بناء شخصية الانسان في كافة الابعاد، وتسعى لحل مشاكل المجتمع ، وتحرص على ربط الانسان بالله تعالى وتقوية إيمانه، وتشحن النفوس بالمعنويات والاقتداء بالعظماء والاولياء ، وتحيي الدين ومناسباته وشعائره وتحث الناس عليها، فهي في واقع الحال مدارس للثقافة والتربية وليست مجالس فارغة ، وقد حضيت بالعناية والقبول من قبل أهل البيت عليهم السلام، مضافاً إلى دعم القرآن للمضامين المطروحة فيها ، فعن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال لفضيل: تجلسون؟ وتحدثون؟  قال: نعم، جعلت فداك. قال: إن تلك المجالس أحبها، فأحيوا أمرنا يا فضيل، فرحم الله من أحيا أمرنا. يا فضيل، من ذكرنا - أو ذكرنا عنده - فخرج من عينه مثل جناح الذباب، غفر الله له ذنوبه ولو كانت أكثر من زبد البحر[20] .

وبهذا المعنى يتبين لنا أن المجالس التي تعقد وما يدور فيها من مضامين دينية وإظهار للحزن على مصيبة الحسين عليه السلام لهي أوضح مصداق يقرب لنا مفهوم الشعائر الالهية، فانطبقت الشعائر الالهية على الشعائر الحسينية انطباق المفهوم على المصداق الحقيقي والواقعي.

الدليل الثاني:

 قوله : ( ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه)[21] .

لا شك أن تعظيم الحرمات عمل محبوب وراجح شرعاً لا ينكره إلا من كابر على ظاهر كتاب الله وصريح آياته ، ومما لا شك فيه أن الحسين بن علي عليه السلام هو حرمة من حرمات الله تعالى ، كيف لا، وهذا النبي | يقول وقد نظر إلى الكعبة : (مرحباً بالبيت ما أعظمك وأعظم حرمتك على الله، والله للمؤمن أعظم حرمة منك، لأن الله حرم منك واحدة ومن المؤمن ثلاثة، ماله ودمه وأن يظن به ظن السوء)[22] ، فلا يحق لأحد هتك حرمة المؤمن والاستهانة بكرامته، فما بالك بهتك  وقتل  ومعاداة خليفة الله في أرضه وسبط رسوله ونبيه وريحانته وسيد شباب أهل الجنة ، وابن بنت نبي هذه الأمة، وكان الشخص الوحيد الذي مثل الاسلام بكل قيمه وتعاليمه، فلم يجد المسلمون تجسيداً عملياً للإسلام في زمانه إلا في شخصه، ولذا كان محط أنظار الامة، وكان يمثل الثقل الأكبر في إعطاء الشرعية للخليفة أو سلب الشرعية منه ، لذا حرص يزيد في أخذ البيعة من الحسين عليه السلام والتشديد في أخذها وإلا فتضرب عنقه، كما كتب إلى واليه في المدينة الوليد بن عتبة، وبعد مقتله صلوات الله عليه أدرك الأمويون  أنهم انتهكوا حرمة كبيرة في الاسلام وعند المسلمين فراحوا يتنصلون منها بعد أن اجتاحت موجة من الحزن والاستياء والاستنكار عند عموم المسلمين  والشعور بالنقمة على الامويين، حتى قال عبد الله بن الزبير : ( ... فرحم الله حسيناً وأخزى قاتل حسين ... أفبعد الحسين نطمئن إلى هؤلاء القوم ونصدق قولهم ونقبل لهم عهداً لا ولا نراهم لذلك أهلاً أما والله لقد قتلوه طويلا بالليل قيامه كثيراً في النهار صيامه أحق بما هم فيه منهم وأولى به في الدين والفضل أما والله ما كان يبدل بالقران الغناء ولا بالبكاء من خشية الله الحداء ولا بالصيام شرب الحرام ولا بالمجالس في حلق الذكر الركض في تطلاب الصيد ...)[23].

وقد جاء في أحاديث النبي الأكرم ما يشير إلى أن عترته وأهل بيته حرمة من حرمات الله تعالى: عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله : إن لله حرمات ثلاث من حفظهن حفظ الله له أمر دينه ودنياه ومن لم يحفظهن لم يحفظ الله له شيئاً : حرمة الاسلام وحرمتي ، وحرمة عترتي [24].

وعن عكرمة ، عن ابن عباس قال : إن لله عز وجل حرمات ثلاث ليس مثلهن شئ : كتابه وهو نوره وحكمته ، وبيته الذي جعله للناس قبلة لا يقبل الله من أحد وجها إلى غيره ، وعترة نبيكم محمد صلى الله عليه وآله[25] .

فتبين لنا أن تكريم الحسين عليه السلام وتعظيمه من الخير الذي دعا القرآن إليه، بينما معاداته وقتله وحربه هو انتهاك صارخ لحرمة الله تعالى وحرمة الاسلام والدين، خصوصاً أن انتهاك هذه الحرمة جاء في شهر محرم فانتهكت حرمتين لله تعالى.

 وتعظيم الحسين عليه السلام لا يختصر بزمان دون آخر، ولا على قوم دون آخرين، ولا ينحصر ببعض المصاديق كزيارته، بل يشمل تخليد ثورته وإحياء ذكراه والبكاء على مصابه أسفاً على الحرمة التي انتهكت والقيم التي أهدرت ،ففي بكاءه إحياء لصوته الهادر وتجديد لمبادئه التي قامت عليها ثورته واستيحاء من منهجه لئلا يغيبه الزمان بالنسيان، ومنه يتضح لنا أن البكاء وعقد مجالس العزاء لهي من أبرز صور التعظيم لحرمات الله تعالى وصونها من الهتك.

الدليل الثالث:

قوله تعالى:(وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ ، قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنْ الْهَالِكِينَ ، قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنْ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ)[26].

من القضايا المتسالم عليها بين المسلمين أن مصادر التشريع الأساسية اثنان: القرآن والسنة الشريفة، وهناك من وسع دائرة السنة من قول وفعل وتقرير النبي إلى قول وفعل وتقرير الأئمة المعصومين، وهناك من جعلها في دائرة أوسع وأنها شاملة لقول وفعل وتقرير الصحابة كالشاطبي وغيره ومنهم من رفض ذلك.

وإذا عرضنا ظاهرة البكاء على آيات القرآن الكريم وتعاليمه ، فلا نجدها تتعارض مع آياته ،بل القرآن يغطي هذه الظاهرة بمشروعيته ويهب لها مساحة من آياته ، ومن هذه الآيات ما ورد في حال نبي الله يعقوب وبكاءه على ولده يوسف النبي ،فقد أعرض نبي الله يعقوب عن أولاده وأسف على يوسف، والأسف هو الحزن الشديد، حتى ابيضت عيناه، وابيضاض العين: إما ذهاب البصر بالكامل يعني عمي بصره[27]، وإما ضعف البصر[28]، والأول أقرب وأظهر لقوله: ( أذهبوا بقميصي هذا فالقوه على وجه أبي يأت بصيراً)[29]

تنويه: أن القرآن قال: ابيضت عيناه من الحزن، ولم يقل من البكاء ؟ لأن الآية أقامت السبب مقام المسبب ،لأن من أسباب البكاء هو الحزن، فنبي الله يعقوب بكى على يوسف مدة طويلة بحيث ينقل الطبري أنه بكاه ( 80 ) سنة[30].

فاعترض عليه أولاده بأن بكاءك المستمر على يوسف بحزن وكمد وذكرك إياه دائماً  سيجعل منك انساناً مريضاً ـ حرضاً ـ أو تكون من الهالكين بحيث لا تنتفع بجسمك لشدة مرضك، فدع عنك البكاء والحزن وسلم لأمر الواقع؟

وهنا نستفيد من الآية أمور أهمها:

الأول: أن الذين يستشكلون على استمرار البكاء وإظهار الحزن على الحسين  هم يكررون إشكال أخوة يوسف على أبيهم يعقوب النبي لاستمرار بكائه على يوسف النبي، فهؤلاء اليوم يتمثلون بمواقف أولئك، وأتباع أهل البيت  يتمثلون ببكاءهم بمواقف الأنبياء، ويكفيهم هذا فخراً، وكأن التأريخ يعيد نفسه في المواقف والأحداث.

الثاني: نستدل بهذه الآية على جواز أمرين:

 أحدهما: مشروعية البكاء.

 وثانيهما: مشروعية الاستمرار في البكاء على الحسين.

ودلالة الآية على الأمرين  بدليل الأولوية؟

بيان مشروعية البكاء على الحسين عليه السلام بدليل الأولوية:

1 ـ  المقارنة بين مقام نبي الله يوسف والإمام الحسين، لا شك أن حزن يعقوب النبي على ولده يوسف يكشف عن عمق العلاقة بينهما ، وأن يوسف بضعة من نبي الله يعقوب، والحسين بضعة من النبي محمد’، فأي البضعتين أعظم وأرفع مقاماً، لاشك أن الحسين أعظم، لأن الرسول| يقول: (حسين مني وأنا من حسين)[31]، والمقصود من قوله: (مني) ليس فقط أنه بضعة منه |، وإنما تعني أن الحسين  يمثل وجود رسول الله | وشخصه وهديه ومنهجه أيضاً ؟

لأن ( من ) تأتي للتبعيض، كقوله : (من المؤمنين رجال صدقوا)[32]، أي بعض المؤمنين. وتأتي للبيان كقوله: (واعدوا لهم ما استطعتم من قوة)[33]،  فـ ( من) ، هنا لبيان جنس الإعداد وهو القوة، فالرسول يقصد بقوله أن الحسين كنفسي ، فإذا عرفت هذا ، نقول:

أن يوسف بضعة من يعقوب وبكى عليه حتى عمي بصره ، فكيف بمن كان كنفس رسول الله’ فلا شك أن البكاء عليه جائز من باب أولى ؛ لأن بكاء يعقوب على يوسف لم يكن بدافع الأبوة فقط، ولذا لما غاب عنه ولده الأصغر بنيامين لم يبكه كما بكى يوسف النبي|، في حين المفروض  أن يكون أكثر تعاطفاً معه، بينما بكى يوسف 80 سنة ؛ لأنه كان يرى في يوسف الإنسان الرباني الذي تذكّرك بالله رؤيته، فهو بكاء لله تعالى، والبكاء لله تعالى لا إشكال فيه عند جميع المسلمين ولو استمر قروناً، وهكذا البكاء على الحسين أيضاً، فإنه بكاء على ولي الله وخليفة رسول الله’.

وقد يقال:

أن هذه مقارنة مع الفارق حيث أن نبي الله يوسف  هو نبي من الانبياء، والحسين ليس نبياً، وهل يعقل أن يكون غير النبي أرفع مقاماً من النبي نفسه؟

والجواب:

قد ثبت في أبحاث مقررة أفضلية مقام الإمامة على مقام النبوة بصريح القرآن الكريم: ( إني جاعلك للناس إماماً)[34] ، فبعد أن أصبح إبراهيم النبي  شيخاً كبيراً، رزقه الله بولده إسماعيل، وابتلاه بذبحه، فلما أسلما لله تعالى وتمثل صابراً للابتلاءات الالهية المتواصلة، وهبه الله مقاماً أرفع مما هو عليه من النبوة، وهو مقام الإمامة، فجمع النبوة والإمامة، ولكن حيثية الإمامة فيه أرفع مقاماً ودرجة من حيثية النبوة ، وهذا لا يعني أن الامامة دائماً أرفع من النبوة، وإنما تعني أن الانسان إذا جمع النبوة والإمامة فحيثية الإمامة فيه أرفع من حيثية النبوة، وبما أن نبينا الأكرم  قد جمع الحيثيتين معاً، وقد ثبت أنه  أفضل الأنبياء والمرسلين بلا مخالف في ذلك ، وقد ثبت أيضاً أن أهل البيت عليهم السلام هم ورثته وخلفائه، وأنهم منه بمنزلة هارون من موسى ، فورثوا منه مقام الإمامة ولم يرثوا مقام النبوة لأنه خاتم الأنبياء والمرسلين، ومن المعلوم أن حيثية الإمامة في أرفع شأناً من النبوة ، وبهذا الدليل نعرف أن الامامة التي ورثها أهل البيت عليهم السلام من النبي  هي أرفع من مقام النبوة في الانبياء  ، فيثبت لنا أن إمامة الحسين  أرفع مقاماً من نبوة يوسف ، وهناك الكثير من الأدلة التي تساق لبيان أفضليتهم أعرضنا عنها، لئلا يخرج البحث عن مدار القرآن الكريم .

وقد تقول:

 أن مدة بكاء يعقوب ثمانين سنة، ومدة البكاء على الحسين تجاوزت الألف سنة، فكيف يمكن تعميم الدليل لمثل هذه المدة الطويلة؟

 والجواب:

أن الاية المباركة لم تأخذ خصوصية المدة الزمنية موضوعاً لمشروعية البكاء،بل لم يرد لها ذكر في الاية، وإنما ذكرت الاية المسبب والأثر للبكاء الطويل، وإنما جاء ذكر للمدة في الروايات التاريخية المختلفة في ضبط المدة ،فإذا جاز البكاء ثمانين سنة على ولي الله تعالى جاز الثمانمائة؛ لأن العدد ليس له مدخلية موضوعية في مشروعية البكاء ،  وإنما سيقت الآية لبيان مشروعية الاستمرار بالبكاء، فالثمانين يصدق عليها  الاستمرارية والمدة الطويلة، والألف سنة مصداق أيضاً للاستمرارية والمدة الطويلة، فتأمل.

2 ـ أن مصيبة الحسين أعظم خطباً وفداحة من مصيبة يوسف، حيث انفردت مصيبة الحسين  بكل غريب وعجيب سواء  في حجمها  أو أحداثها أو هولها أو نوعها، فيوسف النبي لم يتعرض إلا للتغييب عن أبيه، ويعقوب أصيب بالفراق، ثم عاد يوسف إلى أبيه .

والنتيجة: أن الله آتاه الملك، ولم يقتل، ولم يمت، ولم يتعرض إلى ما تعرض إليه الحسين  من الكوارث والبلاء والرزايا، فقد جرت عليه المصائب بما لا تتحملها الجبال الرواسي، وقد استخدم الجناة جميع الوسائل القتالية والجارحة في جسده، بالسيف والرمح والسهام والحجر وحوافر الخيول ، وقد مثلوا بجسده وقطعوا رأسه ورؤس أهل بيته وأصحابه وطافوا بها في البلدان وسبوا عياله وانتهبوا ثقله، يقول الإمام الصادق :  ( انتم سادة الشهداء في الدنيا والآخرة)[35]،وقد قال لهم الحسين  يوم عاشوراء: (..أنشدكم بالله إلا صدقتموني إن صدقت ، أتعلمون أن في الأرض حبيبين كانا أحب إلى رسول الله مني ومن أخي ؟ أو على ظهر الأرض ابن بنت نبي غيري وغير أخي ؟ قالوا : لا)[36].

فمن باب أولى يكون البكاء على الحسين أكثر رجحاناً.

3 ـ أن يوسف غيّبه إخوته نتيجة الحسد والتحسس، ولم يغيب نتيجة التضحية في سبيل المبادئ الرسالية أو نتيجة مواجهة الظالمين ، بينما الحسين خرج في مواجهة وصراع من اجل المبادئ، والقيم، والمثل، والأخلاق، والعقائد، ومن أجل الحق، وإحياء دين جده، حتى استشهد في سبيل الله تعالى، والقتل في سبيل الله أعظم البرّ عنده سبحانه ، حتى ورد : ( فوق كل ذي برّ  بر حتى يقتل الرجل في سبيل الله فليس فوقه بر)[37]، فموقف الحسين أعظم، لأنه كافح من أجل دين الله تعالى ومن أجل استرداد القيم المهدورة، فهو يستحق إدامة البكاء عليه أكثر  لأن البكاء هو نوع من التكريم الذي يجب أن يحضى به العظماء والشهداء والامجاد لإدامة فكرهم وقيمهم واستحضار مبادئهم في كل آن ووقت.

تساؤلات مهمة حول الاستدلال: التسائل الأول: أن بكاء يعقوب على يوسف مبتلى بمشكلتين:  أحدهما: عقائدية، وثانيهما: فقهية.

أما المشكلة العقائدية: يشترط في الأنبياء أن لا يكونوا من أصحاب العاهات المستديمة، كالعرج والصمم والبكم والعمى، لأن وظيفة النبي تبليغ الرسالة، فلابد أن لا تكون فيه بعض المنفرات للطبائع ولو كانت عرفية، فإذا فسرنا قوله : (وابيضت) بالعمى تواجهنا هذه المشكلة؟

والجواب: أن العمى الممنوع هو العمى الدائم أو العمى من الولادة، أما لو طرأ العمى فترة ثم زال عنه، فإنه لا يعدّ عرفاً من المنفرات، فقد رد الله إلى يعقوب بصره عندما جاءوا بقميص يوسف والقوه على وجه أبيهم فارتد بصيراً.

وأما المشكلة الفقهية: أن البكاء يجب أن لا يؤدي إلى الإضرار بالنفس والأذى بها، لأنه جزع ممنوع شرعاً، فما بالك بحزنٍ وببكاءٍ استمر ثمانين سنة؟

والجواب:

أولاً ـأن الممنوع شرعاً ليس البكاء، وإنما الممنوع هو الجزع والاعتراض على أمر الله تعالى، والخدش، وشق الثوب،  والتلفظ بكلمات تنافي التسليم لأمر الله تعالى، وأما البكاء وإن أضر بالجسم فهو غير ممنوع ، لذا عبر القرآن عن يعقوب بـ ( وهو كظيم) بمعنى لم يتفوّه بكلمة تنافي رضاه بقضاء الله وقدره،  لذا قال النبي’: ((إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب ولكن يعذب بهذا – وأشار ’ إلى لسانه).

2 ـ  أن البكاء المؤدي إلى العمى ذكره القرآن ولم يردع عنه ولم ينه عنه ولم يستنكر ذلك من نبي الله يعقوب ، فلو كان معصية، كيف يمكن لنبي الله أن يرتكب المعصية؟وهذا دليل على تأييد القرآن لظاهرة الاستمرار  بالبكاء على الأولياء، ومنهم الحسين× سيد الشهداء.

3 ـلو تنزلنا وقلنا: أن بكاء يعقوب كان جزعاً، وكل جزع فهو حرام. ولكن لهذه القاعدة استثناء ، ومن مستثنياتها هو بكاء يعقوب على يوسف ،فكان جزعاً قد جوزه الله تعالى في كتابه الذي هو المصدر الأول للتشريع، كذلك يستثنى الجزع على الحسين، لأن الآية بصدد بيان أصل التشريع، وليس لبيان خصوصية التشريع ،بمعنى أن القرآن أجاز البكاء على الأولياء ولم يجوزه على خصوص يوسف ، والدليل: أن السنة الشريفة استثنت الجزع على الحسين ـ المصدر الثاني للتشريع كما ذكرنا ـ وجاءت روايات كثيرة تبين أن  الجزع حرام إلا  على الحسين، فقد ورد عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ وَهْبٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ  قَالَ: ( كُلُّ الْجَزَعِ وَالْبُكَاءِ مَكْرُوهٌ سِوَى الْجَزَعِ وَالْبُكَاءِ عَلَى الْحُسَيْنِ )[38].

والدليل الآخر من السنة: أن  الإمام زين العابدين استدل على جواز استمرار البكاء على الحسين بقضية بكاء يعقوب على ابنه، لذا قيل له: يا ابن رسول الله أما آن لحزنك أن تنقضي ؟ ! فقال له : ويحك إن يعقوب النبي عليه السلام كان له اثنا عشر إبناً فغيب الله عنه واحداً منهم فابيضت عيناه من كثرة بكائه عليه ، وشاب رأسه من الحزن ، واحدودب ظهره من الغم ، وكان ابنه حياً في الدنيا وأنا نظرت إلى أبي وأخي وعمي وسبعة عشر من أهل بيتي مقتولين حولي فكيف ينقضي حزني)[39].

ووردعن أبي عبد الله الصادق عليه السلام: ( البكاءون خمسة: آدم، ويعقوب، ويوسف، وفاطمة الزهراء، وعلي بن الحسين...)[40].

وما يدريك لعل الله ساق قصة بكاء يعقوب  في كتابه ليكون تمهيداً لمشروعية البكاء واستمراريته على الحسين ، وهذا ليس بغريب، فكثير من القضايا التي ذكرها القرآن مهدت لمثلها في أهل البيت ، كما في آصف بن  برخيا يقطع مسافة خمسمائة ألف كيلو ليأتي بعرش بلقيس، وله نظير في أهل البيت ، فأمير المؤمنين انتقل من المدينة إلى المدائن لدفن سلمان ، وكذا انتقال الإمام زين العابدين عندما جاء  لمواراة الأجساد.

فيعقوب بكى يوسف واستمر بكاءه، وبهذا نستدل على جواز البكاء على الحسين واستمرار البكاء عليه.

التسائل الثاني:قد تقول: أن هذا الاستدلال لطيف وجيد ومقنع ، ولكن الحكم المذكور في القرآن الكريم مختص بنبي الله يوسف ويعقوب ، فما هو الدليل على جريان وسريان هذا الحكم في أمة الرسول، وهل تشملنا أحكام الأمم السابقة؟

والجواب:

1 ـ هناك قاعدة يبحثها علماء الأصول تحت عنوان: ( شرع من قبلنا) وهل يجوز التعبد ببعض الأحكام التي في زمانهم، فبعض علمائنا وبعض المذاهب الإسلامية( الحنفية) يذهبون إلى جواز ذلك والقول باستمرار بعض الأحكام السالفة وجريانها على الأمة الإسلامية ، وتسمى بالأحكام الحنيفية.

 والأدلة اللفظية قائمة على حجية الشرائع السابقة في أصولها لا في الكتب المتداولة منها في زماننا، ويتفقون على أن ما ذكره القران من أحكام الشرائع السابقة ثابت لنا، وهذا هو المقدار المتيقن من حجية تلك الشرائع، إذن : شرع من قبلنا شرعٌ  وأحكامٌ لنا، ولكن بشروط:

أ   ـ  أن يثبت عن طريق شريعتنا وديننا أنه حكم لمن كان قبلنا ، كأن يذكر القرآن أو السنة ذلك، ويثبت أنه حكم شامل لهذه الأمة .

ب  ـ  أن لا يثبت أنه حكم خاص بتلك الشرائع السابقة، كحكم الصيد يوم السبت، فهو حكم خاص ببعض الأقوام من بني اسرائيل كانت تسكن أيلة قرب البحر الأحمر المجاور لفلسطين.

ج  ـ   أن لا يثبت نسخه في شريعتنا أو لا يرد نهي عنه أو يأتي خلافه.

وقضية بكاء يعقوب هي متوفرة لجميع الشروط المعتبرة في سريان حكم الشرائع السابقة إلى شريعتنا، فلم يثبت اختصاصه بتلك الأقوام، ولم يأتي ضده في شرعنا ولم ينه عنه ولم يردع، بل أمر الشارع به ، وثبت من طريق العامة والخاصة رجحان البكاء لله تعالى وللأولياء وللصالحين ولإظهار التظلم ولنصرة الحق  ،وتحقتت جميع الشروط، فثبت أنه شرع لنا.

وهناك آيات أخرى يمكن الاستدلال من خلالها على مشروعية إظهار الحزن على الحسين  لم نوردها في هذه الدراسة خشية الاطالة واكتفينا بإيراد بعض التفصيلات في بعض الآيات التي وجدنا فيها بلغة المطلوب وإيضاحاً شافياً لمن ألقى السمع وهو شهيد، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة على محمد وآله الطاهرين.

ضياء بلاسم سعدون

9 صفر الخير / 1436 هـ

 دار القرآن الكريم

مركز الإمام الحسين عليه السلام



[1]))سورة يوسف : 84 ــ 86 .

[2])) سورة الحج 32 .

[3])) الفراهيدي، أحمد، كتاب العين: 1، 251 .

[4])) المصدر السابق.

[5]))الزَّبيدي، محمّد بن محمّد بن عبد الرزّاق، تاج العروس:12 ، 190 .   

 

[7])) المصدر السابق.

[8])) ابن منظور، لسان العرب: 4 ،2277 .

[9])) ابن فارس، معجم مقاييس اللغة: 3 ،194 .

[10])) سورة آل عمران: 2 .

[11])) سورة براءة: 119 .

[12])) سورة الاحزاب: 70 .

[13])) الخوئي، أبو القاسم، مصباح الفقاهة: 1 ،241 .

[14])) سورة البقرة:158 .           

[15])) سورة المائدة:2 .

[16])) الترمذي، صحيح الترمذي 5: 617 .

[17])) المجلسي، محمد باقر، بحار الانوار: 44: 330  .

[18])) المجلسي، محمد باقر، بحار الانوار: 4، 382 .

[19])) الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الطبري: 3، 297 .

[20])) البرقي، أبي العباس، قرب الاسناد:10 .

[21])) سورة الحج: 30 .

[22])) الطبرسي، الحسن بن فضل، مشكاة الانوار: 1، 59 .

[23])) تاريخ الطبري، الطبري: 4 ،364 .

[24])) الخصال ، الشيخ الصدوق: 146 .

[25])) المصدر السابق.

[26])) سورة يوسف : 84 ــ 86 .

[27])) الطباطبائي، محمد حسين، تفسير الميزان: 11، 233 .

[28])) أنظر، الطبرسي، تفسير جوامع الجامع: 2 ،236 .

[29])) سورة يوسف: 93 .

[30])) الطبري، محمد بن جرير ،تاريخ الطبري: 1 ،254 .

[31])) المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: 43 ،261 .

[32])) سورة الأحزاب: 23 .

[33])) سورة الأنفال:60 .

[34])) سورة البقرة:124 .

[35])) الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: 4 ،575 .

[36])) المجلسي، محمد باقر، بحار الانوار: 44، 206 .

[37])) الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: 2 ،348 .

[38])) المجلسي، محمد باقر، بحار الانوار: 44، 280 .

[39])) الصدوق، محمد بن علي، الخصال: 2 ،39 .

[40])) المجلسي، محمد باقر، بحار الانوار:43 ،155 .