مفهوم حسن الجوار في القرآن الكريم

 

 

قال تعالى: ﴿ وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا 1.
رفضَ الإسلام صومعة الوحدة، طريقًا للكمال الإنسانيّ، الذي أراده أن يتحقّق في قلب المجتمع الإنسانيّ من خلال علاقته مع الوالدين، والزوجة، والأولاد، والرحم، وبعدهم تأتي علاقة أرادها أن تكون غايةً في الإحسان، ألا وهي العلاقة مع الجيران.
الجار الصالح
وقد اعتبرت الروايات الواردة في هذه العلاقة أنّ الجار الصالح هو من موارد التوفيق الإلهيّ للإنسان، فعن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "من سعادة المسلم سعةُ المسكن، والجار الصالح، والمركب الهنيئ"2
لذا دعا الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم إلى أن يكون انتخاب المنزل الذي يريد الإنسان أن يقيم فيه خاضعًا لدراسة حول الجيران، فقد ورد أنّ رجلاً أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال: "يا رسول الله، إنّي أردت شراء دار، أين تأمرني اشتري، في جهينة، أم في مُزينة، أم في ثقيف، أم في قريش؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الجوار ثمّ الدار"3.

ومن هذا المنطلق، ورد عن الإمام علي عليه السلام: "سل عن الرفيق قبل الطريق، وعن الجار قبل الدار"4.
منزلة الجار
لاهتمام الإسلام بقيمة الجيرة بيَّن منزلة رفيعة للجار، تتّضح من خلال الآتي:
1- الجار وصيّة جبرئيل عليه السلام والنبي صلى الله عليه وآله وسلم 
عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "ما زال جبرئيل يوصيني بالجار حتى ظننت أنّه سيورّثه"، وعن الإمام علي عليه السلام أنّه قال عند وفاته: "الله الله، في جيرانكم، فإنّهم وصيَّة نبيّكم، ما زال يوصيني بهم حتى ظننّا أنّه سيورّثهم"5.
2- الجار كالنفس وبحرمة الأمّ
ورد في الكافي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أنّه كتب بين المهاجرين والأنصار، ومن لحق بهم من أهل يثرب أنّ الجار كالنفس، غير مضار، ولا آثم، وحرمة الجار على الجار كحرمة أمّه"6.
من هو الجار؟
حدّدت الأحاديث الشريفة الجار بنحوين، فُسِّرت الآية القرآنيّة في مطلع الكلمة بهما، وهما:

الأوّل: يتعلّق بالمكان، وذلك بتحديد مساحة واسعة يطلق على كلّ من سكن فيها بأنّه جار، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أربعون دارًا جار"7. وعن الإمام علي عليه السلام: "ألا إنّ حدّ الجار أربعون دارًا"8.
وقد فُسِّر قوله تعالى بالجار ذي القربى، والجار الجنب بالجار القريب، والجار البعيد في دائرة هذه المساحة.
الثاني: يتعلّق بالقرابة العقائديّة أو النَّسَبيّة، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " الجيران ثلاثة: 
1- فمنهم من له ثلاثة حقوق: حقّ الإسلام، وحقّ الجوار، وحقّ القرابة.
2- ومنهم من له حقان: حقّ الإسلام، وحقّ الجوار.
3- ومنهم من له حقّ واحد، الكافر له حقّ الجوار"
9.
حسن الجوار
من هنا دعا الإسلام إلى حسن الجوار مبيّنًا فوائده الآتية:
1- تأكيد الإيمان
عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "أحسن مجاورة من جاورك تكن مؤمنًا"10.
2- زيادة الرزق
عن الإمام الصادق عليه السلام: "حسن الجوار يزيد في الرزق"11.

3- زيادة العمر
عن الإمام الصادق عليه السلام: "حسن الجوار زيادة في الأعمار"12.
4- عمارة الدار
ويكمل الإمام الصادق عليه السلام حديثه السابق بقوله: "وعمارة الدار"13. 
5- كثرة من يُعينه
ورد في الحديث عن أمير المؤمنين عليه السلام: "من أحسن إلى جيرانه كثر خَدَمه"14.
6- الشفاعة
عن الإمام أبي جعفر عليه السلام: "وإنّ المؤمن ليشفع لجاره، وما له حسنة، فيقول: يا ربّ، جاري، كان يكفّ عنّي الأذى، فيشفَّع فيه، فيقول الله تبارك وتعالى: أنا ربّك، وأنا أحقّ من كافى عنك، فيدخله الجنّة، وما له حسنة"15.
كيف نحسن إلى الجار؟
إنَّ الإحسان إلى الجيران يتحقّق بعناوين كثيرة، ركّزت الروايات على بعض منها، هي:
1- كفّ الأذى
ورد عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجلٌ من الأنصار فقال له:"إنّي اشتريت دارًا من بني فلان، وإنّ أقرب جيراني منّي من لا أرجو خيره، ولا آمن شره، فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليًّا وسلمان وأبا ذر...أن ينادوا في المسجد بأعلى أصواتهم بأنّه: لا إيمان لمن لم يأمن جاره بوائقه، فنادوا بها ثلاثاً"16
وعن ابن مسعود أنّه أتى إلى السيدة الزهراء عليها السلام عليها السلام، وسألها: هل ترك رسول الله عندك شيئًا تطرفينيه، فجاءت عليها السلام بجريدة كُتب فيها: "ليس من المؤمنين من لم يأمن جاره بوائقه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره"17.
والبوائق جمع بائقة، ومعناها داهية.
والأذى قد يكون بالتعدّي على أرض الجار، وفي هذا ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من اعتدى على أرض جاره، ولو بمقدار شبر، فإنّ الله سيطوّق به عنقه بطوق من نار ويرميه في جهنّم إلاّ إذا تاب وأرجع الأرض".
وقد يكون الأذى لسانيًّا، وفيه ورد أنّه قيل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنَّ فلاناً يصوم النهار، ويعمل، ويتصدَّق، إلاّ أنّه يؤذي جاره بلسانه، فأجهم صلى الله عليه وآله وسلم وقال: إنَّه لا خير فيه، وإنَّه من أهل النار".
- إزعاجه بالأصوات العالية، لا سيّما في الليالي.
- وضع النفايات في مكان تفوح رائحتها الكريهة ناحيته.
- رمي الأوساخ في المدخل، أو على الدرج، كما يفعل بعضهم في رمي أعقاب السجائر.
- التدخين في المصعد.
- رمي المياه من الأعلى دون الالتفات إلى ما تحت.
- فتح المصعد، وجاره ينتظر...الخ
2- الصبر على الأذى
لم يكتفِ الإسلام في بيان حسن الجوار بالكفّ عن الأذى، بل ورد عن الإمام الكاظم عليه السلام قوله:"ليس حسن الجوار كفّ الأذى، ولكن حسن الجوار صبرك على الأذى"18.

3- تفقّد الجار
عن الإمام علي عليه السلام: "من حسن الجوار تفقّد الجار"19.

حقوق الجار
ورد عنوان حقوق الجار في أكثر من حديث، وهي عبارة عن حملة من القيم والآداب الرفيعة فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "هل تدرون ما حقّ الجار؟ ما تدرون ما حقّ الجار إلاّ قليلاً، ألا لا يؤمن بالله واليوم الآخر من لا يؤمن جاره بوائقه، وإذا استقرضه أن يقرضه، وإذا أصابه خير هنّاه، وإذا أصابه شرّ عزّاه، ولا يستطيل عليه في البناء يحجب عنه الريح إلاّ بإذنه، وإذا اشترى فاكهة فليهد له، وإن لم يهدِ له فليدخلها سرّاً ولا يعطي صبيانه منه الشيء يغايظون صبيانه"20.
وفي رسالة الحقوق قال الإمام زين العابدين عليه السلام: 

أمّا حقّ جارك:
1- فحفظه غائبًا (حفظ شخصه، حفظ منزله، حفظ سيارته...).
2- وإكرامه شاهدًا (إبداء الاحترام، تهنئته بالمناسبات، تقديم هدية له...).
3- ونصرته إذا كان مظلومًا.
4- ولا تتتّبع له عورة، فإن علمت عليه سوءً سترت عليه.
في حديث آخر "ولا تبحث له عن سوءة لتعرفها، فإن عرفتها منه عن غير إرادة منك ولا تكلّف، كنت لما علمت حصنًا حصينًا وسترًا وستيرًا، لو بحثت عنه ضميرًاً لم تصل إليه لإنطوائه عليه"21.
قال الشاعر:22
مـا ضرّ جاري أن أجاوره*** أن يـكون لبـابه ستر
أعمى إذا ما جارتي خرجت*** حتى يُواري جارتي الخدرُ
نـاري ونـار الجار واحدة*** وإليه قبلي ينزل القِد
رُ
1- وإن علمت أنّه يقبل نصيحتك نصحته فيما بينك وبينه.
2- ولا تُسلِمهُ عند شديدة.
3- وتقبل عثرته.
4- وتغفر ذنبه.
5- وتعاشره معاشرة كريمة.
 

الجار في دعاء الإمام زين العابدين عليه السلام 
ويعلمنا الإمام زين العابدين عليه السلام حسن الجوار في دعائه قائلاً: "اللهم تولَّني في جيراني: بإقامة سُنَّتك والأخذ بمحاسن أدبك في:
1- إرفاق ضعيفهم
2- وسدّ خلّتهم
3- وتعهّد قادمهم
4- وعيادة مريضهم
5- وهداية مسترشدهم
6- وكتمان أسرارهم
7- وستر عوراتهم
8- ونصرة مظلومهم
9- وحسن مواساتهم بالماعون
10- والعود عليهم بالجدّة والإفضال
11- وإعطاء ما يجب لهم قبل السؤال
12- والجود بالنّوال يا أرحم الراحمين"
23.
وأخيرًا إنّ أهمّ جيرة وأعظمها هي جيرة الكمال المطلق غير المحدود بمكان ولا مكان، وإنّما جيرته في جنّة الرضوان، ففي الحديث عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا كان يومُ القيامة جمع الله الخلائق في صعيد واحد، وينادي منادٍ من عند الله.. أين أهل الصبر؟ ثمّ ينادي منادٍ آخر.. أين أهل الفضل؟ ثمّ ينادي منادٍ من عند الله عزّ وجل يُسمِعُ آخرَهم كما يُسمِعُ أولَّهم، فيقول: أين جيرانُ الله جلّ جلاله في داره؟ فيقوم عنُقٌ من الناس، فتستقبلُهُم زمرةٌ من الملائكة فيقولون لهم: ماذا كان عملكم في الدنيا فصرتم به اليوم جيران الله تعالى في داره؟ فيقولون: كنّا نتحابُّ في الله، ونتباذل في الله، ونتوازر في الله، فينادي منادٍ من عند الله: صدق عبادي، خلُّوا سبيلهم لينطلقوا إلى جوار الله في الجنّة بغير حساب"24.
* آية الوصايا العشر، الشيخ أكرم بركات.


1- سورة النساء، الآية 36.
2- الصدوق، محمّد، الخصال، تحقيق علي أكبر الغفاري، (لا،ط)، قم، منشورات جماعة المدرسين، 1403هـ، ص 184.
3- الميرزا النوري، مستدرك الوسائل، تحقيق ونشر مؤسسة آل البيت عليهم السلام، ط2، بيروت، 1988م، ج3، ص471.
4- الإمام علي عليه السلام، نهج البلاغة، ج3، ص 56.
5- الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، ج7، ص 51.
6- المصدر السابق، ج2، ص 661.
7- الريشهري، محمد، ميزان الحكمة، ج1، ص 488.
8- الطوسي، الخلاف، ج4، ص 152.
9- البروجردي، جامع أحاديث الشيعة، ج16، ص 89.
10- الريشهري، محمد، ميزان الحكمة، ج1، ص 486.
11- الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، ج2، ص 666.
12- المصدر السابق، ص 667.
13- المصدر السابق.
14- الريشهري، محمد، ميزان الحكمة، ج1، ص 486.
15- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج8، ص 56.
16- الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، ج2، ص 666.
17- البروجردي، جامع أحاديث الشيعة، ج13، ص 431.
18- الحر العاملي، محمّد حسن، وسائل الشيعة، ج12، ص 122.
19- الريشهري، محمد، ميزان الحكمة، ج1، ص 486.
20- الفتال النيسابوري، محمّد، روضة الواعظين، (لا،ط)، قم، منشورات الشريف الرضي، (لا،ت)، ص388.
21- الحرّاني، الحسن، تحف العقول، ط2، قم، مؤسسة النشر الإسلامي، 1404هـ، ص 266.
22- إصدار مركز الرسالة، الحقوق الاجتماعية، ط1، قم، مركز الرسالة، 1417هـ، ص 39.
23- الإمام زين العابدين، الصحيفة السجادية، تحقيق محمد باقر الابطحي، ط1، قم، مؤسسة المهدي ومؤسسة الأنصاريان، 1411هـ،، ص 131.
24- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج7، ص 171.