موقع العفّة في العلاقات الإجتماعية من رؤية قرآنية

 

طبعاً نحن نتناول العلاقة بين الرجل والمرأة من الزاوية الإنسانية، ولا شأن لنا بالجهات الاُخری کالعلاقات الاقتصادية أو السياسية أو العلمية أو الإدارية، وهذه العلاقة يُمکن لحاظها علی مستويين

المستوی الأوّل: مستوی طبيعة العلاقة وأساسها سواءا کانت علاقة عامّة أو شخصية

أ. ضرورة وجود العلاقة بينهما، وکونهما الأساس في هذا الوجود الإنساني بکلّ امتداداته التاريخية والجغرافية، قال تعالی: {يا أيّها الناس إنّا خلقناکم من ذکر وانثی وجعلناکم شعوباً وقبائل لتعارفوا إنّ أکرمکم عند الله أتقاکم}(الحجرات-13) .

ب. العلاقة الاجتماعية المسؤولة، والتي تتمثّل بعلاقة الدعوة إلی الخير والهداية والإرشاد، والولاية، أي الرقابة والإصلاح الاجتماعي، والإسهام في بناء المجتمع، وقد دلّت عليه نصوص بعضها بالصراحة وبعضها بالإطلاق.

جـ .تناسب العلاقة مع الخصائص الواقعية لکلّ من الجنسين، فرفض الإسلام علاقة الصداقة واتخاذ الأخدان، وقد ورد في هذا الصدد نصان قرآنيان.

د. إيجاد الفضاء المناسب لأداء کلّ منهما دوره بحرية تامة، بأن تکون المؤسسات النسوية في المجتمع المدني لها نحو من الاستقلال النسبي لکلّ من الجنسين رغم الاشتراك بينهما، طبعاً إنّ هذا من المسلّمات في الشرعية بحسب الارتکاز الشرعي، ولم يتمّ حتی الآن بحسب اطلاعي استخراج الوجه الفنّي له والصناعي وتکيفه فقهياً وفق النصوص والأدلّة المعتمدة في صناعة الاستنباط.

أجل، يوجد حکم معروف يقع في هذا السياق، ألا وهو حرمة الخلوة بالأجنبية، وعلی الرغم ممّا يحمل هذا التشريع من مداليل تربوية وأبعاد أخلاقية إلا أنّ هذا لا يمنع من الاختلاط في المحافل العامّة وحينما لا يصدق عنوان ( الخلوة )، وعليه فالاقتصار علی ذکر هذا العنوان فقط غير صحيح ولا يحول دون الفساد الأخلاقي بشکل تامّ، بل لابدّ من إتباعه بعناوين اُخری، کما أشرنا إلی بعضها.

هـ . تقنين العلاقة الشخصية بينهما من أجل الحقوق المادية والمعنوية لکلّ من الطرفين، والحيلولة دون تعريضها الضياع أو التضييع، ومن وضعها الشارع ضمن قالب محدّد، ففي الغالب تتجسّد في قالب عقد إنساني، وهو عقد النکاح.

المستوی الثاني: مستوی الممارسات السلوکية

أ. الحيلولة دون وقوع حالة الإرباك في مسار الحياة اليومية حتی في الدوائر المحدودة، ومحاصرة عناصر الإثارة الذي يُساهم في خفض منسوب العفّة في المجتمع، ويتجلّی هذا في إلزام الشريعة المرأة بارتداء الحجاب.

ب. الوقوف بوجه محاولات الإخلال في المظاهر الاجتماعية العامّة، وهذا ما نفهمه من المنع الحادّ لممارسة التبرّج من قِبل المرأة.

ج. ما تقدّم يُمکن أن نقول عنه إنّه تشريع من نوع إعدام المقتضي لانحراف مسار الحياة، ومضافاً إلی هذا نجد أنّ الشريعة وضعت ضوابط قاطعة للحيلولة دون تأثير المقتضي لو کان أو للتقليل منه، من خلال الأمر بغضّ البصر عن النظر إلی الجنس المخالف نظرة طامحة.

لقد اهتمّ الشارع بهذا الشأن كثيراً لما له من دخالة تامّة في صلاح الفرد والمجتمع؛ ولذلك سنلاحظ أن هذه التشريعات توافق الفطرة وما عليه الاركاز المتشرعي والعقلائي، ومن أهمّ هذه الأمور التي أكد عليها الشارع نذكر على سبيل المثال:

• منعه للاختلاط بين الجنسين ولو على سبيل الكراهة، وهذه المسألة وإن لم يكن لها دليل واضح من النصوص إلا أن الارتكازات ومذاق الشارع تؤيدها.

• منعه للنظر من الطرفين، فقد ورد المنع عن نظر المرأة للرجل والعكس في قوله تعالى : {قل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا } (النور-30و31).

والمقصود من النظر الممنوع هنا هو النظرة التي يترتب عليها ما ينافي العفة، وأمّا مجرّد النظرة البريئة فلا، وهذا ما يُفسّر لنا الأحاديث الواردة في منع النظر بالنسبة إلى نظرة دون أخرى كتحليل النظرة الأولى وتحريم غيرها أو تحريم أصل النظر من غير تفصيل، فإنّها ناظرة إلى كيفية النظر لا كميته، فما كان من النظر بريئاً من غير شهوة أو إثارة فلا دليل على حرمته، وأمّا إذا كانت النظرة نظرة ريبة وشهوة فهي حرام سواء كانت هي الأولى أو لا، ولعلّ في التفصيل بين النظرة الاُولى وغيرها إشعاراً بهذا الأمر؛ فإنّ النظرة الاُولى غالباً ما تكون بريئة بخلاف ما بعدها من تكرّر النظر.

• منعه لاتخاذ الأخدان، كما ورد في قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مِّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }(النساء-25) .

والمقصود من اتخاذ الأخدان هو الصداقة بين الجنسين، ونعني بالصداقة ما لها من معنى عميق يحمل الانفتاح على الطرف الآخر والأخذ والعطاء بينهما بما ترتفع معه بعض الحواجز ولو لم تؤدِّ إلى فعل محرّم؛ فإنّ هذا النوع من الصداقة محرّم في نفسه، وهذا هو المستظهر من الرواية، خلافاً لما عليه أكثر المفسرين من حملها على الاتخاذ بغرض فعل الزنا والسفاح؛ إذ لا وجه لتقييد الآية الكريمة به، لکونها مطلقة.

• منعه لابتذال لباس المرأة وفرضه الحجاب عليها، كما في قوله تعالى: {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }(نور-31) ؛ وذلك لما لإظهار زينة المرأة من الأثر الذي لا ينكر في مضادّة العفة وكسرها في الفرد والمجتمع، والمقصود ممّا ظهر منها هو الأمور المتعارف إظهارها عند النساء بحيث لا توصف المرأة إذا لم تستره بالمبتذلة أو غير المحجبة؛ باعتبار أنّ المرأة تحتاج الی أداء بعض الأعمال وإلی الحرکة والتنقّل داخل المجتمع وإجراء بعض المعاملات مع الآخرين، وهذا الأمر يستلزم بطبيعته کشف بعض أجزاء البدن کالوجه أو الکفّين کما هو المعروف فتوائياً بين الفقهاء؛ ولذا لا يُقال لمثل هذه المرأة أنها متبرّجة مثلاً.

• فتحه للمجال الفطري والمتنفّس الطبيعي للإنسان الذي من خلاله يعتدل في عفته ألا وهو باب الزواج؛ فإنّ الشارع فتح للإنسان هذا الباب بما يكتفي به عن أيّ أمر آخر يخالف العفّة.

هذه الأمور وغيرها يمكن عدّها من الأمور التي ساهم من خلالها الشارع في تقنين وتنظيم العفة بالنسبة للفرد والمجتمع معاً.

 

المصدر: موقع رائدات الهدى