القرآن الكريم بين القدسية والهجران

 

قال تعالى:

( وقال الرسول يا ربِّ إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً) 

الفرقان: 30 .

المقدمة:
من الظواهر السلبية المستشرية في المجتمع الاسلامي هي هجرانهم لكتاب الله المجيدبمختلف صور الهجران وإعراضهم عنه،في حين بات القرآن الكريم يمثل رمز قوتهم وحضارتهم ومصباح هدايتهم، يخرجون به من ظلمات حياتهم الحالكةويشقون بقبسه درب نجاتهم ويحتمون به من لهيب الفتن وشرارها ، يقول النبي (ص) : ( إذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن فإنه شافع مشفع وماحل مصدق ومن جعله أمامه قاده إلى الجنة ومن جعله خلفه قاده إلى النار وهو الدليل يدل على خير سبيل)[1].

إن استهانة المسلمين بأقدس وأطهر كتاب لديهم من خلال الاعراض عنه يمثل واقعاً مؤلماًوظاهرةً تستبطن هدر التراث الاسلامي الزاخر،والتفريط بما يقيم أود حياتهم، وتنبأ عن تردي مستواهم الحضاري والمعرفي وعدم التزامهم بدينهم وابتعادهم عن روح الاسلام.

إن اختلاف حال المسلمين تبعاً لاختلاف نمط حياتهم من زمان إلى آخر نتيجة تطور التكنلوجيا الحديثة وما انتجه العقل البشري أضفى نسقاً جديداً على حياتهم اليومية والفكرية والعلمية والثقافية مما غيّر الكثير من الظواهر والعادات المترسخة والموروثة ، إلا اننا نجد ظاهرة هجران القرآن الكريم تعبر عن ثقافة موحدة وثابتة في المجتمع الاسلامي على امتداد التاريخ دون أن يجد التغيير إليها سبيلاً.

ومن هنا كان لزاماً على المسلمين استجماع قواهم لإعادة كتاب الله تعالى إلى حياتهم ليأخذ دوره ومكانته المرموقة في المنظومة الفكرية والدينية للفرد المسلم من خلال التعامل بمفاهيمه والسير خلف توجيهاته وأحكامه في كافة مستويات حياتهم  ليغمر حياتهم ونفوسهم بهديه ونوره واستقامته، فإنه لا تجد الامة ما ينهض بها ويقيم أود صلاحها وخيرها إلا بالرجوع إلى احضان القرآن الكريم الذي ضمن لمن استرشد بآياته خير الدنيا والاخرة وصلاحهما، ولا تنشد غاية إلا وقد ضمن القرآن تحقيقها، ولا تحفظ مجدها التليد إلا بحفظ تعاليم القرآن بين ظهرانيها.

مكانة القرآن في المنظومة الاسلامية

يعتبر القرآن الكريم هو المصدر الاول للتشريع الاسلامي سواء في الاحكام أو العقائد او الاخلاق او عموم المعارف الدينية أوسائر ما انطوت عليه مكنون آياته المباركة من العلوم والسنن وغيرها.

ويعد المعجزة الخالدة للإسلام ولنبي الاسلام محمد (ص) ، وهو الكتاب الوحيد المعصوم من الزلل والخطأ عند المسلمين ،وكل الكتب الحديثية خاضعة لمشرحة التقييم العلمي ، وهذه العصمة لكتاب الله الكريم هيأت لبقائه على مر التاريخ وجعلته عصياً عن أن يناله التحريف أو النيل من قداسته ومكانته، وعلى الرغم من إهمال المسلمين وعدم اهتمامهم بمعجزة الاسلام حيث تلقوها بالإعراض والهجران إلا أنه لو سألتهم عن أقدس كتاب حضي باحترام وتقديس بينهم لما أشاروا إلى غير القرآن الكريم.

وقد اهتم النبي الاكرم(ص) وأهل بيته الطاهرين (ع) بالقرآن أشد الاهتمام معربين بذلك عن مكانته في منظومة الفكر الاسلامي وعمق تأثيره في النفوس، فهو كتابُ خالق السماوات والارض ودستور رب العالمين، وقد تلقوه(ع) بالتلاوة والاستماع والتدبر والحفظ، وكانوا يتفاعلون مع آياته ،لانهم على معرفة تامة أنه دواء لداء القلوب والابدان، وبه يصل الانسان إلى أوج الكمالات الروحية، وبه يسمو الانسان في جميع أبعاده، وأنه الكتاب المشتمل على الاسرار المعرفية .

ومما يعرب عن احتفاء النبي(ص) و

اهتمامه على الصعيد القولي والعملي بالقرآن ماروي: عَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ قَالَأَتَيْتُ عَائِشَةَ فَقُلْتُ يَا أُمَّالْمُؤْمِنِينَ أَخْبِرِينِي بِخُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ أَمَا تَقْرَأُ الْقُرْآنَ قَوْلَاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ:

( وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ )[2].

فكان يرى في القرآن جوامع الكلم وأنه منحةٌ وعطيّة إلهية خصّه الله بها دون سائر الانبياء والمرسلين، وبه فضله على جميع العالمين ،فقد روي أبي جعفر عن أبيه عن علي عنه (ص) أنه قال: ( أعطيت خمساً لم يعطهن نبي كان قبلي : أرسلت إلى الابيض والاسود والاحمر ،وجعلت لي الارض مسجداً وطهوراً، ونصرت بالرعب، وأحلّت لي الغنائم، ولم تحلّ لاحد، وأعطيت جوامع الكلم. قال فسألت أبا جعفر ، قلت: وما جوامع الكلم ؟ قال القرآن)[3].

 لذا كان النبي وآله (ص) يذكر الناس بالقرآن امتثالاً لله تعالى:(وذكّر بالقرآن من يخاف وعيد)[4].

وكان(ص) لا ينام حتى يقرأ القرآن ولم يتوانى عن تبليع آياته وتوضيحها وقراءتها للناس: ( هو الذي بعث في الاميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته..)[5].

وكان يحيي الليل بقراءته ويقرأه قراءة وعاية ودراية، فكان يتأثر بآياته وتفيض عيناه بالدموع تأثراً وخشية ،حتى روي أن رسول الله إذا قرأ آية: (وَمَا تَكُونُ فِي شَأْن وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِن قُرْآن وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَل إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَبِّكَ مِن مِثْقَالِ ذَرَّة فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّماءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذلِكَ وَلاَ أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَاب مُبِين )[6] ، بكى بكاء شديداً [7].

وبلغت مكانة القرآن في الاسلام حتى أن الرسول(ص) كان يعطي المناصب والمقامات بقدر حفظ الانسان لآياته ووعيه لها،فعن أبي هريرة قال: بَعَثَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْثًا وَهُمْ ذَوُو عَدَد فَاسْتَقْرَأَهُمْ فَاسْتَقْرَأَ كُلّ وَاحِد مِنْهُمْ مَا مَعَهُ مِنْ الْقُرْآن فَأَتَى عَلَى رَجُل مِنْ أَحْدَثِهِمْ سِنًّا فَقَالَ : مَا مَعَك يَا فُلَان ؟ فَقَالَ : مَعِي كَذَا وَكَذَا وَسُورَة الْبَقَرَة .

فَقَالَ : أَمَعَك سُورَة الْبَقَرَة ؟ قَالَ نَعَمْ قَالَ : اِذْهَبْ فَأَنْتَ أَمِيرُهُمْ"[8].

ولم يدع آيات القرآن متناثرة في الأيدي بل قام بتجميعها وتدوينها وأمر بقراءة سورة في زمانه وبيّن ثواب قراءته، ليبين مكانة القرآن ومرجعيته، فهو الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو الكتاب الذي قال الله عنه: ( إنا نحن نزلنا الذّكر وإنا له لحافظون)[9]، وقال عنه: ( وانه لذكر لك ولقومك)[10]، وقال عنه: ( لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله)[11]، كل ذلك يأتي في بيان مكانة القرآن ومحوريته في الاسلام.

حياة القرآن ومواكبته للمستجدات

يعتبر القرآن الرسالة الخالدة للإسلام وبه ختمت الشرائع السماوية وتم نسخها، إذ لم تعد هناك حاجة إلى تشريعات أخرى بعد اشتمال القرآن على دستور يواكب الحياة بمستجداتها ويحمل بين دفتيه حلولاً لمشاكلها ومنهاجاً يقيم أودها بمختلف مناحيها الدينية والاخلاقية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعلمية وغيرها،فهو كتاب قد صيغ من لدن حكيم خبير وعليم بما تحتاجه البشرية في طريق هدايتها عبر القرون إلى مبلغ منتهاها، فجاءت رسالة القرآن حاملة عنصر الاستمرار والخلود،وكانت رسالة جامعة للقيم الانسانية، والكمالات النفسية، والسعادة الدنيوية، والأخروية، فهي رسالة عالمية شاملة، يقول تعالى: )وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةًلِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أكثر النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ)[12].

ولا نبالغ إذا ما قلنا إن الإسلام قد اعتنى بجميع مظاهر الحياة العصرية وأشار إليها في عصر لا يفهم هذه التطورات، وبرهن بذلك على أن تعاليم الإسلام تحاكي جميع العصور وتواكب مسيرة الإنسان المتنامية عبر الزمان، وتدعم جميع التطورات التي ترتقي بالإنسان نحو العلموالكمال.

كما أن تدرّج نزول آياتة ومواكبة الأحداث بآنية يكشف عن مسايرته للحياة وشموليته في تغطية المستجدات بما ينسجم مع طبيعة الظروف من زمان إلى آخر.

فليس القرآن قوالب جامدة لا روح فيها، وإلا لما كتب له الخلود إلى يومنا هذا في شتى بقاع العالم رغم عدم وجود جامع بين مجتمع وآخر إلا هذا القرآن العظيم.

وبهذا فسرت حياة القرآن، وأنه يجري كما يجري الليل والنهار ويجري على الآخرين كما جرى على الأولين، ولا ينصلح أمر الآخرين إلا بما صلح  به أمر الأولين، حيث وجد الأولون في القرآن بغيتهم واستجابة لمتطلباتهم الروحية والبدنية،فأخرجهم من وحل الظلم والجاهلية إلى نور العلم والهداية، ( إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم)[13]، فهو يهدي الروح إلى الرشد، والعقل إلى الفكر القويم، والقلب إلى الهداية،فمن طلب الهدى في غيره أضله الله ، يقول تعالى: (قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)[14].

فالقرآن الكريم يناغي جميع طبقات المجتمع كلٌّ بحسبه عبر العصور، حيث لا تنتهي معانيه، قال تعالى: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْء)ٍ[15].

ويقول الامام الصادق ×: (إن القرآن حي لم يمت، وانه يجري كما يجري الليل والنهار، وكما تجري الشمس والقمر، ويجري على آخرنا كما يجري على أولنا )[16].

وما على المسلمين إلا أن يستثيروا كوامن آياته ويستنطقوا نصوصه لمسايرة واقع حياتهم المتغيرة تحت مظلة القرآن الكريم،( يا ايها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم..)[17].

وها هو القرآن يدعونا إلى استثارة التراث وما خلفه لنا  الأسبقون ، قال تعالى: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)[18].

إن تسليط الضوء على تراثنا الإسلامي بنظرة متساوية تغنينا عن الثقافات الأخرى، وتحررنا من التقليد الاعمى، حيث أنه من أمارات الجمود والتخلف، ويشل الحركة نحو الرُقي.

فالغرب اليوم يعمل على بلورة تراثنا ومخزوننا الثقافي والعلمي الكامن في القرآن الكريم، وأحاديث النبي (ص)، والائمة المعصومين ^، ثم يصدرونها لنا على أساس أنهم موهوبون وأصحاب خبرات، وهم أول من توصل إلى هذه الاكتشافات، ولو رجعنا إلى العلوم المعاصرة لوجدنا أصولها في القرآن الكريم، وأحاديث أهل البيت ^.

ولكن واقع المسلمين تجاه القرآن مخيب للآمال،حيث عادت ثقافة القرآن الأصيلة منسية في أوساطهم، بل حتى في أروقة العلم، وعمل بعض المسلمين على تغريبها من الاوساط الاجتماعية، حتى إذا ما ذكر القرآن ذاكر اشمأزت قلوبهم وكلحت وجوههم .

وأنى لهم باستنطاق كتاب الله واستنباط كنوزه ومعارفه بما يساير حياتهم الحديثة ويواكب متغيراتها إذا كان تلقيهم للقرآن ضعيفاً، بل لم يتلقوه عموماً إلا بالهجران والاعراض،واستعاضوا عن تعاليمه وهديه بما يصدره لنا أعداء القرآن من ثقافات هزيلة وأفكار غير مستقيمة تفتقد إلى مقومات السعادة والهداية وتحوّل الانسان إلى موجود بهيمي لا همّ له الا البحث عن متعته وإشباع غرائزه بشتى الوسائل المشروعة وغيرها.

من هنا كان الاعراض عن القرآن الكريم وهجرانه يعدُّانحرافاً واضحاً عن هديه وبصائره،وجفاءً لتعاليمه ولصاحب الرسالة ، وانتكاسة في مستقبل الامة وحضارتها،وعائقاً من التقدم والتطور في كافة مجالات الحياة، على الرغم من أن القرآن يحمل كل أدوات التطور والتقدم ، فمنذ أكثر من ألف وأربعمائة عام قد سبق القرآن جهابذة العلم وأصحاب النظريات والاختراعات في تأكيد بعض الحقائق العلمية التي تم اكتشافها بعد قرون من تنبؤاته ولا زال الكثير منها لم يتوصل لها العقل البشري بكل إمكاناته،بل يقف العقل متحيراً وعاجزاً عن تفسير بعض إخباراته.

فلا عذر لمن أعرض عنه ولا يمكن تبرير هذا الموقف يوم القيامة أمام الرسول (ص)حين يقف شاكياً إلى الله تعالى أمته لهجرانهم كتاب الله :( وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً)[19].

إن مصير الامة ومستقبلها مرهون بإحياءهم تعاليم القرآن واعتمادهم عليه في حياتهم كمنج عملي،والاعراض عنه يجعل حياة الانسان عديمة الذوق والطعم ، حياة لا تحمل إلا أسمها ، ولا تعرف من سبل ومقومات الحياة السعيدة شيئاً، إنها الحياة التي أنذر بها القرآن الكريم بقوله: ( ومن اعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى) [20].

 



[1])) الحر العاملي، محمد بن الحسن،وسائل الشيعة:ج6، 171 .

[2])) الشيباني (ابن حنبل)، أحمد، مسند أحمد : ح23346 .

[3])) المجلسي، محمد باقر، بحار الانوار: 16 ، 324 .

[4])) سورة ق : 33 .

[5])) سورة الجمعة : 2 .

[6])) سورة يونس :61 .

[7])) مجمع البيان، الطبرسي: 5، 116

[8])) تفسير ابن كثير: 1 ، 240 .

[9])) سورة الحجر: 9 .

[10])) سورة الزخرف :44 .

[11])) سورة

([12]) سورة سبأ: 28.

[13])) سورة الاسراء :9 .

([14]) سورة المائدة: 15- 16.

([15]) سورة الانعام: 38.

([16]) المجلسي، محمد بن الحسن، بحار الانوار: 35، 403، الباب العشرون، أنه نزل فيه ×: الذكر والنور، والهدى، والتقوى في القرآن.

[17])) سورة الانفال:24 .

([18]) سورة الروم: 9.

[19])) سورة الفرقان: 30 .

[20])) سورة طه:124 .