السنن التاريخية في القرآن الكريم2

                                 بسم الله الرحمن الرحيم                                       

الحمد لله رب العالمين وصلى اللّه على محمد وآله الميامين الطاهرين.
قلنا ان هذه الفكرة القرآنية عن سنن التاريخ، بلورت في عدد كثير من الآيات بأشكال مختلفة وألسنة متعددة في بعض هذه الآيات اعطيت الفكرة بصيغتها الكلية، وفي بعض الآيات اعطيت الفكرة بصيغتها الكلية، وفي بعض الآيات اعطيت على مستوى التطبيق على مصاديق ونماذج، في بعض الآيات وقع الحث على الاستقراء وعلى الفحص الاستقرائي للشواهد التاريخية، من اجل الوصول إلى السنة التاريخية.
وهناك عدد كثير من الآيات الكريمة استعرضت هذه الفكرة بشكل وآخر، وسوف نقرأ جملة من هذه الآيات الكريمة، وبعض هذه الآيات التي سوف نستعرضها واضح الدلالة على المقصود، والبعض الآخر له نحو دلالة بشكل وآخر أو يكون معززاً ومؤيداً للروح العامة لهذه الفكرة القرآنية.
فمن الآيات الكريمة التي اعطيت فيها الفكرة الكلية، فكرة ان التاريخ له سنن وله ضوابط مايلي:
(لكلّ أمّة أجلّ إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون)(1) (ولكلّ أمّة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعةً ولا يستقدمون)(2).
نلاحظ في هاتين الآيتين الكريمتين، أن الأجل أضيف إلى الأمة، إلى الوجود المجموعي للناس، لا إلى هذا الفرد بالذات أو هذا الفرد بالذات، إذن هناك وراء الأجل المحدود المحتوم لكل إنسان بوصفه الفردي، هناك أجل آخر وميقات آخر للوجود الاجتماعي لهؤلاء الأفراد، للامة بوصفها مجتمعا ينشئ ما بين أفراد العلاقات والصلاحيات القائمة على أساس مجموعة من الأفكار والمبادي المسندة بمجموعة من القوى والقابليات، هذا المجتمع الذي يعبر عنه القرآن الكريم بالامة، هذا له أجل، له موت، له حياة، له حركة، كما أن الفرد يتحرك فيكون حيا ثم يموت كذلك الأمة تكون حية ثم تموت، وكما أن موت الفرد يخضع لأجل ولقانون ولناموس كذلك الأمم أيضاً لها آجالها المضبوطة.
وهناك نواميس تحدد لكل أمة هذا الاجل، إذن هاتان الآيتان الكريمتان فيهما عطاء واضح للفكرة الكلية، فكرة أن التاريخ له سنن تتحكم به وراء السنن الشخصية التي تتحكم في الأفراد، بهوياتهم الشخصية:
(وما أهلكنا من قرية إلاّ ولها كتاب معلوم ما تسبق من أمّة أجلها وما يستأخرون)(3). (ما تسبق من أمّة أجلها وما يستأخرون)(4) (أو لم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق اللّه من شي وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فبأىّ حديث بعده يؤمنون)(5) ظاهرة الآية الكريمة أن الأجل الذي يترقب أن يكون قريبا أو يهدد هؤلاء بأن يكون قريباً، هو الأجل الجماعي لا الأجل الفردي، لان قوما بمجموعهم لا يموتون عادة في وقت واحد وإنما الجماعة بوجودها المعنوي الكلي هو الذي يمكن ان يكون قد اقترب أجله.
فالأجل الجماعي هنا يعبر عن حالة قائمة بالجماعة، لاعن حالة قائمة بهذا الفرد أو بذاك، لان الناس عادة تختلف آجالهم حينما ننظر إليهم بالمناظر الفردي، لكن حينما ننظر إليهم بالمناظر الاجتماعي بوصفهم مجموعة واحدة متفاعلة في ظلمها وعدلها، في سرّائها وضرائها، حينئذ يكون لها أجل واحد فهذا الأجل الجماعي المشار إليه إنما هو أجل الأمة، وبهذا تلتقي هذه الآية الكريمة مع الآيات السابقة (وربّك الغفور ذو الرّحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجّل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلاً وتلك القرى أهلكناهم لمّا ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعداً) (6)، (ولو يؤاخذ اللّه النّاس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابّة ولكن يؤخّرهم إلى مسمّى فإذا جاء أجلهم فإنّ اللّه كان بعباده بصيراً)(7)، في هاتين الآيتين الكريم تحدث القرآن الكريم عن أنه لو كان اللّه يريد أن يؤاخذ لناس بظلمهم، وبما كسبوا لما ترك على ساحة الناس من دابة، يعني لاهلك الناس جميعا.
وقد وقعت مشكلة في كيفية تصوير هذا المفهوم القرآني، حيث ان الناس ليسوا كلهم ظالمين عادة، فيهم الأنبياء، فيهم الأئمة فيهم الأوصياء. هل يشمل الهلاك الأنبياء، والائمة العدول من المؤمنين؟ حتى ان بعض الناس استغل هاتين الآيتين لإنكار عصمة الأنبياء(ع)، والحقيقة ان هاتين الآيتين تتحدثان عن عقاب دنيوي لا عن عقاب أخروي، تتحدث عن النتيجة الطبيعية لما تكسبه أمة عن طريق الظلم والطغيان، هذه النتيجة الطبيعية لا تختص حينئذ بخصوص الظالمين من أبناء المجتمع، بل تعم أبناء المجتمع على اختلاف هواياتهم، وعلى اختلاف أنحاء سلوكهم. حينما وقع التيه على بني إسرائيل نتيجة ما كسب هذا الشعب بظلمه وطغيانه وتمرده، هذا التيه لم يختص بخصوص الظالمين من بني إسرائيل، وإنما شمل موسى ـ عليه السلام ـ شمل اطهر الناس وازكى الناس، واشجع الناس في مواجهة الظلمة والطواغيت، شمل موسى ـ عليه السلام ـ لأنه جزء من تلك الأمة وقد حلّ الهلاك بتلك الأمة قد قرر نتيجة ظلمهم ان يتيهوا أربعين عاما، وبهذا شمل التيه موسى ـ عليه السلام ـ حينما حل البلاء والعذاب بالمسلمين نتيجة انحرافهم فاصبح يزيد بن معاوية خليفة عليهم يتحكم في دمائهم وأموالهم وأعراضهم وعقائدهم، حينما حلّ هذا البلاء لم يختص بالظالمين من المجتمع الإسلامي، وقتئذ شمل الحسين ـ عليه السلام ـ، أطهر الناس وأزكى الناس واطيب الناس
وأعدل الناس، شمل الامام المعصوم ـ عليه السلام ـ قتل تلك القتلة الفظيعة هو واصحابه وأهل بيته.
هذا كله هو منطق سنة التاريخ والعذاب حينما يأتي في الدنيا على مجتمع وفق سنن التاريخ، لا يختص بخصوص الظالمين من أبناء ذلك المجتمع ولهذا قال القرآن الكريم في آية أخرى (واتّقوا فتنةً لا تصيبنّ الّذين ظلموا منكم خاصّة واعلموا انّ اللّه شديد العقاب)(8) بينما يقول في موضع آخر (ولا تزر وازرة وزر أخرى)(9). فالعقاب الاخروي دائما ينصب على العامل مباشرة، وأما العقاب الدنيوي فيكون أوسع من ذلك، إذن هاتان الآيتان الكريمتان تتحدثان عن سنن التاريخ لاعن العقاب بالمعنى الاخروي والعذاب بمعنى مقاييس يوم القيامة، بل عن سنن التاريخ وما يمكن ان يحصل نتيجة كسب الأمة، سعي الأمة، جهد الأمة.
(وان كادوا ليستفزّونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلاّ قليلاً سنّة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنّتنا تحويلاً)(10) هذه الآية الكريمة أيضاً تؤكد المفهوم العام، يقول (ولا تجد لسنّتنا تحويلاً)، هذه سنة سلكناها مع الأنبياء من قبلك، وسوف تستمر ولن تتغير. أهل مكة يحاولون أن يستفزوك لتخرج من مكة لأنهم عجزوا عن إمكانية القضاء عليك، وعلى كلمتك وعلى دعوتك، ولهذا صار أمامهم طريق واحد إخراجك من مكة.
وهناك سنة من سنن التاريخ سوف يأتي إنشاء اللّه شرحها بعد ذلك يشار إليها في هذه الآية الكريمة. وهي أنه إذا وصلت عملية المعارضة إلى مستوى إخراج النبي من هذا البلد، بعد عجز هذه المعارضة عن كل الوسائل والاساليب الأخرى، فانهم لا يلبثون إلاّ قليلا. ليس المقصود من انهم لا يلبثون إلاّ قليلا، يعني انه سوف ينزل عليهم عذاب اللّه سبحانه وتعالى من السماء، لان أهل مكة اخرجوا النبي بعد نزول هذه السورة. استفزوه وارعبوه وخرج النبي(ص) من مكة إذ لم يجد له ملجاً وأمانا في مكة فخرج إلى المدينة ولم ينزل عذاب من السماء على أهل مكة، وإنما المقصود في أكبر الظن من هذا التعبير أنهم لا يمكثون كجماعة صامدة معارضة يعني كموقع اجتماعي لا يمكثون، لا كأناس، كبشر، وإنما هذا الموقع سوف ينهار نتيجة هذه العملية، سوف ينهار هذا الموقع، لا يمكثون إلاّ قليلا لان هذه النبوة التي عجز هذا المجتمع عن تطويقها سوف تستطيع بعد ذلك ان تهز هذه الجماعة كموقع للمعارضة، وهذا ما وقع فعلا. فان رسول اللّه (ص) حينما أخرج من مكة لم يمكثوا بعده إلاّ قليلا، اذ فقدت المعارضة في مكة موقعها، وتحولت مكة إلى جز من دار الإسلام بعد سنين معدودة.
إذن الآية تتحدث عن سنة من سنن التاريخ، وتؤكد وتقول (ولا تجد لسنّتنا تحويلاً) (قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذّبين)(11).
تؤكد هذه الآية على السنن وتؤكد على الحق والتتبع لأحداث التاريخ من اجل استكشاف هذه السنن من اجل الاعتبار بهذه السنن:
(ولقد كذّبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذّبوا وأوذوا حتّى أتاهم نصرنا ولا مبدّل لكلمات اللّه ولقد جاءك من نبأ المرسلين...)(12) هذه الآية أيضاً تثبّت قلب رسول اللّه(ص)، تحدثه عن التجارب السابقة، تربط بقانون التجارب السابقة، توضح له ان هناك سنة تجري عليه وتجري على الأنبياء الذين ما رسوا هذه التجربة من قبله وان النصر سوف يأتيه ولكن للنصر شروطه الموضوعية: الصبر، والثبات، واستكمال الشروط، هذا هو طريق الحصول على هذا النصر، ولهذا يقول (فصبروا على ما كذّبوا وأوذوا حتّى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات اللّه) إذن هناك كلمة اللّه لا تتبدل على مر التاريخ،هذه الكلمة التى لا تتبدل على مر التاريخ،هذه الكلمة التى لا تتبدل هي علاقة قائمة بين مجموعة من الشروط والقضايا والمواصفات وضحت من خلال الآيات المتفرقة وجمعت على وجه الجمال هنا.
إذن فهناك سنة التاريخ (فلما جاءهم نذير ما زادهم إلاّ نفوراً استكباراً في الأرض ومكر السّيء ولا يحيق المكر السّيء إلاّ بأهله فهلّ ينظرون إلاّ سنّة الأولين فلن تجد لسنّة اللّه تبديلاً ولن تجد لسنّة اللّه تحويلاً)(13). (ولو قاتلكم الّذين كفروا لو لوا الأدبار ثمّ لا يجدون وليّاً ولا نصيراً سنّة اللّه التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنّة اللّه تبديلاً)(14) هناك آيات استعرضت نماذج من سنن التاريخ (انّ اللّه لايغيّر ما بقوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم)(15) المحتوى الداخلي النفسي الروحي للإنسان هو القاعدة، الوضع الاجتماعي هو البناء العلوي، لا يتغير هذا البناء العلوي إلاّ وفقا لتغيّر القاعدة على ما يأتي انشأ الله شرحه بعد ذلك.
هذه الآية إذن تتحدث عن علاقة معينة بين القاعدة والبناء العلوي، بين الوضع النفسي والروحي والفكري للإنسان، وبين الوضع الاجتماعي، بين داخل الإنسان وبين خارج الإنسان، فخارج الإنسان، يصنعه داخل الإنسان، مرتبط بداخل الإنسان، فإذا تغير ما بنفس القوم تغير ما هو وضعهم، وما هي علاقاتهم وما هي الروابط التي تربط بعضهم ببعض.
إذن فهذه سنة من سنن التاريخ، ربطت القاعدة بالبناء العلوي (ذلك بأنّ اللّه لم يك مغيّرا نعمة انعمها على قوم حتّى يغيّر واما بأنفسهم)(16). (ام حسبتم ان تدخلوا الجنّة ولمّا يأتيكم مثل الّذين خلوا من قبلكم مسّتهم البأساء والضّرّاء وزلزلوا حتى يقول الرّسول والذين معه متى نصر اللّه ألا ان نصّر اللّه قريب)(17). يستنكر عليهم ان يأملوا في ان يكون لهم استثناء من سنة التاريخ، هل تطمعون ان يكون لكم استثناء من سنة التاريخ! وان تدخلوا الجنة وان تحققوا النصر، وانتم لم تعيشوا ما عاشته تلك الأمم التي انتصرت ودخلت الجنة من ظروف البأساء والضراء التي تصل إلى حد الزلزال على ما عبّر القرآن الكريم؟ ان هذه الحالات، حالات البأساء والضراء التي تتعملق على مستوى الزلزال هي في الحقيقة مدرسة للامة، هي امتحان
لارادة الأمة، لصمودها، لثباتها، لكي تستطيع بالتدريج ان تكتسب القدرة على ان تكون امة وسطا بين الناس.
إذن نصر الله قريب لكن نصر الله له طريق. هكذا يريد ان يقول القرآن، نصر الله ليس أمرا عفويا، ليس أمر على سبيل الصدفة، ليس أمرا عمياويا، نصر اللّه قريب ولكن اهتد إلى طريقه، الطريق لابد وان تعرف فيه سنن التاريخ، لابد وان تعرف فيه منطق التاريخ لكي تستطيع ان تهتدي إلى نصر الله سبحانه وتعالى. قد يكون الدواء قريبا من المريض لكن إذا كان هذا المريض لا يعرف تلك المعادلة العلمية التي تؤدي إلى إثبات ان هذا الدواء يقضي على جرثومة هذا الداء، لا يستطيع ان يستعمل هذا الدواء حتى ولو كان قريبا منه.
إذن الاطلاع على سنن التاريخ هو الذي يمكّن الإنسان من التوصل إلى النصر.
فهذه الآية تستنكر على المخاطبين لها ان يكونوا طامعين في الاستثناء من سنن التاريخ (وما أرسلنا في قرية من نذير إلاّ قال مترفوها انّا بما أرسلتم به كافرون وقالوا نحن اكثر اموالاً واولاداً وما نحن بمعذّبين..)(18) هذه علاقة قائمة بين النبوة على مر التاريخ، وبين موقع المترفين والمسرفين في الأمم والمجتمعات. هذه العلاقة تمثل سنة من سنن التاريخ، وليست ظاهرة وقعت في التاريخ صدفة وإلا لما تكررت بهذا الشكل المطرد لما قال (وما أرسلنا في قرية من نذير إلاّ قال مترفوها) اذن هناك علاقة سلبية، هناك علاقة تطارد وتناقض، بين موقع النبوة الاجتماعي في حياة الناس على الساحة التاريخية والموقع الاجتماعي للمترفين والمسرفين، هذه العلاقة ترتبط في الحقيقة بدور النبوة في المجتمع ودور المترفين والمسرفين في المجتمع. هذه العلاقة جز من رؤية موضوعية عامة للمجتمع، كما سوف يتضح إنشاء اللّه حينما نبحث عن دور النبوة في المجتمع والموقع الاجتماعي للنبوة، سوف يتضح حينئذ ان النقيض الطبيعي للنبوة هي موقع المترفين والمسرفين.
إذن هذه سنة من سنن التاريخ (.. وإذا أردنا ان نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحقّ عليها القول فدمّرناها تدميراً وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح وكفى بربّك بذنوب عباده خبيراً بصيراً)(19)، هذه الآية أيضاً تتحدث عن علاقة معينة بين ظلم يسود وظلم يسيطر وبين هلاك تجر اليه الامة جرا.
وهذه العلاقة أيضاً الآية تؤكد إنها علاقة مطلقة، علاقة مطردة على مر التاريخ وهي سنة من سنن التاريخ.
(ولو انّهم أقاموا التّوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربّهم لاكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم..)(20) (ولو انّ أهل القرى آمنوا واتّقوا لفتحنا عليهم بركات من السّماء والأرض ولكن كذّبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون(21) (وأن لو استقاموا على الطّريقة لاسقيناهم ماءاً غدقاً بل قالوا انّا وجدنا آبأنا آبأنا على أمّةٍ وانّا على آثارهم مهتدون)(22) (وكذلك ما ارسلن
من قبلك في قرية من نذير إلاّ قال مترفوها انّا وجدنا آبائنا على أمّة وانّا على آثارهم قتدون)(23) هذه الآيات الثلاث أيضاً تتحدث عن علاقة معينة هي علاقة بين الاستقامة وتطبيق أحكام اللّه سبحانه وتعالى و بين وفرة الخيرات ووفرة الإنتاج، وبلغة اليوم بين عدالة التوزيع وبين وفرة الإنتاج، القرآن يؤكد ان المجتمع الذي تسوده العدالة في التوزيع هذه العدالة في التوزيع التي عبر عنها القرآن تارة بأنه. (لو استقاموا على الطريقة لاسقيناهم ماء غدقاً) واخرى بانه (لو ان أهل القرى آمنوا واتّقوا) وأخرى بأنه (لو انّهم أقاموا التّوراة والإنجيل)، لان شريعة السماء نزلت من اجل تقرير عدالة التوزيع، من اجل إنشاء علاقات التوزيع على أسس عادلة، يقول لو انهم طبقوا عدالة التوزيع، إذن لما وقعوا في ضيق من ناحية الثروة المنتجة، لما وقعوا في فقر من هذه الناحية لازداد الثراء، لازداد المال وازدادت الخيرات والبركات. لكنهم تخيلوا ان عدالة التوزيع تقتضي الفقر تقتضي التقسيم وبالتالي تقتضي فقر الناس، بينما الحقيقة السنة التاريخية تؤكد عكس ذلك، تؤكد بأن تطبيق شريعة السماء وتجسيد أحكامها في علاقات التوزيع تؤدي دائما وباستمرار إلى وفرة الإنتاج والى زيادة الثروة، إلى ان يفتح على الناس بركات السماء والأرض.
إذن هذه أيضاً سنة من سنن التاريخ.
وهناك آيات أخرى أكدت وحثت على الاستقراء والنظر والتدبر في الحوادث التاريخية من اجل تكوين نظرة استقرائية، من اجل الخروج بنواميس وسنن كونية للساحة التاريخية (افلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبةً الّذين كانوا من قبلهم دمّر اللّه عليهم وللكافرين أمثالها)(24) (افلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الّذين من قبلهم)(25)، (فكأيّن من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطّلة وقصر مشيد، أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو إذان يسمعون بها فانّها لا تعمى الابصار ولكن تعمى القلوب الّتي في الصّدور.)(26)، (وكم اهلكنا قبلهم من قرن هم أشدّ منهم بطشاً فنقّبوا في البلاد هل من محيص، انّ في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السّمع وهو شهيد...)(27).
من مجموع هذه الآيات الكريمة يتبلور المفهوم القرآني الذي أوضحناه، وهو تأكيد القرآن على ان الساحة التاريخية لها سنن ولها ضوابط كما يكون هناك سنن وضوابط لكل الساحات الكونية الأخرى. وهذا المفهوم القرآني يعتبر فتحا عظيما للقرآن الكريم... لأننا في حدود ما نعلم القرآن أول كتاب عرفه الإنسان أكد على هذا المفهوم، وكشف عنه وأصر عليه وقاوم بكل ما لديه من وسائل الإقناع والتفهيم، قاوم النظرة العفوية أو النظرة الغيبية الاستسلامية بتفسير الأحداث، الإنسان الاعتيادي كان يفسر أحداث التاريخ بوصفها كومة متراكمة من الأحداث، يفسرها على أساس الصدفة تارة، وعلى أساس القضاء والقدر والاستسلام لأمر اللّه
سبحانه وتعالى، القرآن الكريم قاوم هذه النظرة العفوية وقاوم هذه النظرة الاستسلامية ونبه العقل البشري إلى ان هذه الساحة لها سنن، ولها قوانين وانه لكي تستطيع ان تكون انسانا فاعلا مؤثراً لابد لك أن تكتشف هذه السنن، لابد لك ان تتعرف على هذه القوانين لكي تستطيع ان تتحكم فيها والا تحكمت هي فيك وانت مغمض العينين، افتح عينيك على هذه القوانين افتح عينيك على هذه السنن لكي تكون أنت المتحكم لا لكي تكون هذه السنن هي المتحكمة فيك.
هذا الفتح هذا الفتح القرآنى الجليل هو الذى مهد إلى تنبيه الفكر البشرى بعد ذلك بقرون إلى ان تجرى محاولات لفهم التاريخ فهمها علميا بعد نزول القران بثمانية قرون بدأت هذه المحاولات بدأت على ايدي المسلمين انفسهم،فقال ابن خلدون بمحاولة الدراسة التاريخ وكشف سننه وقوانينه، ثم بعد ذلك بأربعة ـ على اقل تقدير ـ اتجه الفكر الاوربي فى بدايات مايسمى بعصر النهضة،بداء لكي يجسد هذا المفهوم الذي ضيعه المسلمون والذي لم يستطع المسلمون ان يتوغلوا إلى اعماقة، هذا المفهوم الذي لم يستطع المسلمون ان يتوغلوا إلى اعماقة، هذا المفهوم اخذه الفكر الغربي فى بدايات عصر النهضة وبأت هناك أبحاث متنوعة ومختلفة حول فهم التاريخ وفهم سنن التاريخ ومدارس متعددة كل واحدة منها تحاول ان تحدد نواميس التاريخ.
وقد تكون المادية التاريخية اشهر هذه المدارس وأوسعها تغلغلا واكثرها تأثيرا في التاريخ نفسه، إذن كل هذا الجهد البشري في الحقيقية هو استمرار لهذا التنبيه القرآني ويبقى للقرآن الكريم مجده في انه طرح هذه الفكرة لأول مرة على الساحة على ساحة المعرفة البشرية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة يونس آية: 49
2  سورة الاعراف آية: 34-
3 سورة الحجر آية: 4 ـ 5.
4 سورة المؤمنون آية: 43.
5 سورة الاعراف آية: 185.
6 سورة الكهف آية: 58 ـ 59.
7 سورة فاطر آية: 45.
8 سورة الانفال آية: 25.
9 سورة فاطر آية: 18.
10 سورة الاسراء آية: 76 ـ 77.
11 سورة آل عمران آية: 137.
12 سورة الانعام آية: 34.
13 سورة فاطر آية: 43.
14 سورة الفتح آية: 23.
15 سورة الرعد آية: 11.
16 سورة الانفال آية: 53.
17 سورة البقرة آية: 214.
18 سورة سباء الايات: 34 ـ 35.
19 سورة الاسراء آية: 16 ـ 17.
20 سورة المائدة آية: 66.
21 سورة الاعراف آية: 96.
22 سورة الجن الآية 16.
23 سورة الزخرف آية: 22.
24 سورة محمد آية: 10.
25 سورة يوسف آية: 109.
26 سورة الحج آية: 46.
27 سورة ق آية: 36 ـ 37.

من كتاب المدرسة القرآنية (السيد الشهيد محمد باقر الصدر قدس)