الهجرة والفرار إلى الله سبحانه

                                  

إن الفرار من بطش السلطات الجائرة والهجرة إلى الله سبحانه وسيلة من أهم وسائل مقارعة الطغاة ووضع أغلالهم، ووسيلة ضرورية لإيجاد السعة في العمل والسعي لبسط العدل والقسط أو حفظ النفس أو الرسالة. وهذه الوسيلة مارسها الأنبياء والأئمة لتأكيد شرعيتها وأهميتها في قلوب المجاهدين الصادقين، ولكي لا يكون هناك حرج على المجاهدين حين العمل بها, بل قد تصل في بعض الأحيان إلى الوجوب حينما تأمر بها القيادة الربانية، أو حينما يُستضعَف الإنسان ويشتد الخناق على كرامته أو حريته, وقد تصل أهمية الهجرة إلى الذروة القصوى, وعندئذ مَنْ يتخلف عن الهجرة يخرج من دائرة الإيمان، ويقبع في مستنقع النفاق، وتنقطع ولاية المؤمنين به.

والتاريخ مليء بالفارين من سوء الحياة، والمهاجرين من أجل حياة أفضل, بل إن التاريخ شاهد صدق على أن الحياة والدول والشعوب في جميع أبعادها الفكرية والإنسانية والطبيعية لم تتغير ولم تصلح ولم تتقدم إلا بجهود الفارين والمهاجرين, فالفارون والمهاجرون هم بناة الحضارات، ورواد التقدم دائماً وأبداً, ومع ذلك يبقى الفرار والهجرة وسيلة للعمل وليست هدفاً ولا أساساً.

نعم هي وسيلة أساسية لا غنى عنها نحتاج إليها بين الفينة والأخرى وحسب الظروف الزمكانية والموضوعية والشخصية, والقيادة هي التي تشخص الظروف العامة ومتطلباتها والفرد هو الذي يشخص ظروفه الشخصية ومتطلباتها.

ولأن حياة الآمرين بالعدل والقسط مهددة على الدوام - من قبل الذين يكفرون عملياً بإقامة العدل أو بسط القسط - بأقسى أنواع التنكيل بدءً بالضغوط النفسية, مروراً بالمطاردة والسجن والتعذيب، وانتهاء بالقتل، يكون الفرار والهجرة معيناٌ لحفظ النفس، وتبليغ الرسالة، يقول الله سبحانه وتعالى مهدداً الذين يقتلون الآمرين بالقسط: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الِّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ).

ومن أجل استمرار تبليغ الرسالة، واشتداد عودها، وحفظ أهلها ونجاتهم من تنكيل الطغاة, جعل الله الفرار والهجرة وسيلة يمتطيها الأنبياء وأتباعهم, فهذا خليل الله النبي إبراهيم (عليه السلام) يقرر الهجرة والفرار من طغيان نمرود يقول الله سبحانه وتعالى: (وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ).

وهذا كليم الله موسى بن عمران (عليه السلام) يتوج العلم الذي وهبه الله إياه بالقيام بواجبه بردع الظلم والعدوان الذي يمارسه الملأ من آل فرعون على أتباع موسى المستضعفين من بني إسرائيل, ويسعى لإقامة القسط والعدل, فيقوم النبي إعمالاً بالقسط بقتل أحد أتباع السلطة الفرعونية الطاغية الذي كان يمارس العمل الشيطاني إفساداً في الأرض، أو استعباداً للعباد، أو قتلاً لهم.

وبعد هذه الحادثة ينكشف أمر موسى, فيسأل الله أن يستره عن أعين الطغاة, ويعاهد الله الذي أنعم عليه بالعلم والستر أن لا يكون معيناً للمجرمين, ويُعدُّ هذا الحدث من فعل نبي الله موسى (عليه السلام) محطة تحول أساسية, وبداية تأسيس لمرحلة جديدة من المواجهة والتحدي للطاغي, وكسر جبروته، وطوق ترهيبه, ويبدأ رد فعل الطاغي سريعاً ببث الإرهاب، ونشر الخوف، وعقد الاجتماعات الطارئة للقضاء على نبي الله موسى (عليه السلام)، وللسيطرة على استعباد الناس وترهيبهم, فيصبح نبي الله موسى (عليه السلام) في حالة خوف على رسالته وأتباعه ونفسه من حماقات ردود أفعال الطاغي, فيأخذ الحيطة والحذر، ويراقب الوضع، ويتابع الأخبار، ويترصد لما يفعله الطغاة, فيأتيه الخبر اليقين من داخل قصر الطاغي عبر مؤمن آل فرعون الذي نصح نبي الله موسى (عليه السلام) بالفرار والخروج من أرض مصر لأن بطانة الطاغي تتسابق في التشدق بإعلان الولاء للطاغي - بدل إسداء النصيحة - عبر تأزيم الوضع والتصعيد الأمني والأمر بقتل نبي الله موسى (عليه السلام), وهنا استجاب النبي موسى (عليه السلام) للنصيحة وقرر الفرار والهجرة, وخرج وهو في حالة من الخوف على الرسالة والأتباع والنفس، وفي حالة من الحذر والترقب, سائلاً ربه دون سواه:

أول: النجاة من الظالمين.

وثاني: الهداية لبلاد يجد فيها الكرامة والعدل والحرية والأمن, فهداه الله إلى بلاد مدين حيث هناك نبي الله شعيب (عليه السلام) الذي بشره بالأمن والأمان والنجاة من أيدي الظالمين, وهناك في المهجر أخذ نبي الله موسى (عليه السلام) يربي نفسه ويهيئها لمقارعة الطغاة, وتعلم من شعيب سنن العمل الرسالي ثم عاد إلى أرض مصر.

يقول الله سبحانه وتعالى: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ * قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ* فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ * فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ * وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ * فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ * وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ * فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).

وفي طريق عودته إلى أرض مصر يأمره الله سبحانه وتعالى بمقارعة فرعون وجنده, وهنا يشرح نبي الله موسى (عليه السلام) الظروف المحيطة به، ويبين الصورة الحقيقية لذهنية الطاغي، والتفكير العام عنده, حيث التكذيب للمؤمنين الصادقين، واتهامهم بالجرم والذنب والضلال عن منهج الطاغي, وكل هذه الدعاوي تشرع القتل للطاغي، ومع وجود تلك الصورة وهي حقيقة الطاغي إلا أن الله يأمر نبيه (عليه السلام) بعد دخوله مصر بمواجهة فرعون بالحقيقة، وبيان الرسالة، وتحرير بني إسرائيل من العبودية، وإخراج الناس من عبادة فرعون إلى عبادة الله.

وفي قصر الطاغي يمارس الطاغي دور الإله وأنه هو الرب والرازق وهو صاحب العطاء والمنّة على العباد في معايشهم، ومن ثم يصنع الجو الإرهابي بتجريم أفعال الخير التي يمارسها المؤمنون، واعتبار هذه الأعمال تهمة يعاقب القانون عليها, وهنا يكون الرد صريحاً من قبل نبي الله موسى (عليه السلام) وأنه فرّ وهاجر من أرضه بسبب الإرهاب الذي يمارسه النظام الحاكم, ويحتج بصوت عالي على ممارسة الطاغي استعباد الناس، وحرمانهم من حقوقهم وتكبيلهم ومنعهم من الانطلاق في الحياة ليستجدوا التبن والفتات من الحاكم، ويتقوقعوا في أسر منَّته المدّعاة, فيقول للطاغي: أنت الذي استعبدت الناس وسلبتهم حريتهم وضيقت عليهم معيشتهم ليستجدوا منك حقوقهم التي حرمتهم إياها, وبعد ذلك تعتبر هذا الظلم والجور والطغيان منك نعمة تمنها على الشعب المستضعف المحروم. هنا يستشيط الطاغي غضباً, ويبدأ بالاستهزاء والسخرية، ثم اتهام المجاهدين بالحمق والتهور والفوضى والجهل وزعزعة الأمن، ثم يقوم بتهديد الرساليين بالسجن والتعذيب إذا رفضوا أنظمته وقوانينه الجائرة، أو حينما يلتزمون بشريعة عدالة السماء، ويرفضون قوانين ظلم الأرض.

يقول الله سبحانه وتعالى: (وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ * وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ * وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ * قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُم مُّسْتَمِعُونَ * فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ * قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ * وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ * قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ * فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ * وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ * قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كُنتُم مُّوقِنِينَ * قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ * قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ * قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ * قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ * قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ).

ويضيق صدر الطاغي، ويفقد أعصابه، فيقرر قتل الآمرين بالعدل، ومن يستجيب لهم ولو كان القتل سيصيب المجتمع بأكمله, لأن عرش الطاغي أغلى من المجتمع كله, وما المجتمع في نظر الطاغي إلا عبيد له ولكرسيه, هنا تبدأ عملية المطاردة براً وبحراً وفي جميع المنافذ، فيفر نبي الله موسى (عليه السلام) مرة أخرى, ولكن في هذه المرة يفر ومعه مجتمع بأكمله بلغ مئات الآلاف, لكن شاءت الرحمة الإلهية سلامة الفارين, كما شاء الغضب الإلهي الانتقام من الطاغي وإهلاكه وسقوط ملكه غير مأسوف عليه ليبقى درساً وعبرة للطغاة, ولكن عميت أبصار الطغاة وتطينوا في غيهم يعمهون.

يقول الله سبحانه وتعالى: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ * فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * إِنَّ هَؤُلَاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ * فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ * فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ * فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ * وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ).

ويقول الله سبحانه وتعالى: (فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ * وَاتْرُكْ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ * كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ *  وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ * وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ * مِن فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِّنَ الْمُسْرِفِينَ).

وهاهم أتباع الرسول (صلى الله عليه آله وسلم) يرفضون الأنظمة الجائرة، والقوانين الظالمة، والعقيدة الباطلة التي يفرضها مشركي قريش, ويقولون ربنا الله لا الحكام, نعم لنظم وقوانين عدالة وحرية السماء لا لنظم وقوانين هوى وشهوات الحكام, فيفر بعضهم إلى الحبشة، ويفر بعض آخر إلى المدينة المنورة حفظاً لأنفسهم ودينهم من ظلم وطغيان المشركين.

يقول الله سبحانه وتعالى: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) وهذا خير البشرية وسيد الأنبياء وحبيب الله محمد بن عبد الله (صلى الله عليه آله وسلم) يفر من مكة المكرمة مهاجراً إلى المدينة المنورة حينما اجتمعت وتآمرت الطغاة على قتله, وفي طريقه يختبئ في الغار في جبل الثور بعد مطاردة مشركي قريش له لقتله, ولكي لا يكون في الاختباء حرج على المجاهدين لأنهم يقتدون ويتأسون بسيد المرسلين وبه النجاة من مخالب الظالمين.

ثم بعد ذلك ينصره الله ويفتح مكة المكرمة على يديه، ويطهرها من الأصنام، وتعتلي كلمة الله سبحانه وتعالى، وتتسافل نظم وقوانين الذين كفروا بالتوحيد والكرامة والعدل والحرية، يقول الله سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ * إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).

إن استضعاف الطغاة للناس وترهيبهم لا يبرر للناس التخلي عن قيم التوحيد والكرامة والعدالة والحرية, فعندما يبلغ الاستضعاف درجة يعجز الإنسان بسببه، أو يتعسر عليه الالتزام بقيمه، أو يخشى ضياعها هنالك يجب عليه الفرار بدينه وقيمه، والهجرة إلى بلد يتمكن فيه من ممارسة قيمه ودينه, بل سيجد في فراره وهجرته أرضاً واسعة تستقبله، وسعة من المعيشة المادية والمعنوية, ولو أدركه الموت في فراره وهجرته فهو في سبيل الله، وسيغفر الله له ما تقدم من ذنوبه، ويحيطه بشآبيب الرحمة الواسعة، يقول الله سبحانه وتعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا * إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُوْلَـئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوًّا غَفُورًا * وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيماً).

إن الولاية بين المؤمنين رباط مقدس لا ينعقد إلا بالهجرة والفرار, ومن يرفض الفرار أو الهجرة إذا أمرت به القيادة يخرج من دائرة الإيمان، ويرتكس في دائرة النفاق، ولا يخرج منها إلا بالفرار والهجرة التي تعيده إلى قدس الإيمان، ورباط المؤمنين والكون فيهم ومنهم, يقول الله سبحانه وتعالى: (فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُواْ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً * وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء حَتَّىَ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ).

ويقول الله سبحانه وتعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَـئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ * وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ * وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَـئِكَ مِنكُمْ وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).

فإذا قررتُ الفرار والهجرة فلي في خليل الله إبراهيم (عليه السلام)، وكليم الله موسى (عليه السلام)، وحبيب الله محمد (صلى الله عليه آله وسلم) قدوة وأسوة حسنة, ويضاعف لمن تأسى بهم الأجر والثواب.

وكذلك لي قدوة وأسوة في الإمام الحسين (عليه السلام) الذي فر وهاجر من المدينة المنورة إلى مكة المكرمة حينما أرهب من طغاة بني أمية، وبعد أربعة أشهر من مكوثه في مكة المكرمة يبلغ رسالة جده, فبعد أن عقد إحرامه للحج في يوم التروية اليوم الثامن من ذي الحجة يفاجئ الحجيج بعد لحظات من الإحرام بالإحلال من إحرام الحج, ويدعو الناس للفرار من مكة المكرمة والهجرة معه إلى العراق, فما استجابوا له خلوداً إلى الأرض, فابتلاهم الله ببطش يزيد قتلاً وتنكيلاً وهتكاً للأعراض في المدينة المنورة أولاً, وبعدها مباشرة في مكة المكرمة, أقدس وآمن بقعتين على وجه الأرض.

إن الفرار والهجرة عمل مشروع ومبارك, وبه يأمن الإنسان، ويجد السعة للعمل والسعي لقضيته وقيمه, وبالمهاجرين ينكسر جدار الصمت، وتصدح الحناجر بالكلام، وتتهاوى أبراج الترهيب، وتنهض الشعوب، ويتحرر المستضعفون، وتتقدم الأمم، وتبنى الحضارات, ولهذا يتطلب منا احترام المهاجرين الفارين من ظلم وطغيان حكوماتهم، وينبغي علينا مساندتهم مادياً ومعنوياً ليواصلوا الذود عن قضايانا ومبادئنا لأنهم المنفس الذي نتنفس منه، واللسان الذي ننطق به.

ومع كل ذلك يبقى الفرار والهجرة وسيلة وليست أساساً ولا هدفاً, ولذلك يبقى لي في الكثير من الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) قدوة وأسوة للبقاء وعدم الفرار والهجرة أو الاختباء كما اختبأ الرسول (صلى الله عليه آله وسلم) في الغار عن أعين مجرمي قريش وطواغيتها، وكما اختبأ الإمام المنتظر (عليه السلام) في سرداب سامراء عن أعين مجرمي بني العباس وطواغيتهم، وغاب عن أعين الناس، ولأن البقاء والاختباء أنفع لأداء رسالتي ولو كان الفرار أصلح لقضيتي لما ترددت في الهجرة, ولكن البقاء والاختباء هو الأصلح والأنفع لها, ولذا فإنّي لن أفر ولن أهاجر، مع أنني قادر على الفرار والهجرة, ولكن سأبقى من الداخل معارضاً حسب قدرتي وإمكاناتي, كما كنت في الماضي معارضاً لكل أنواع وأصناف الظلم والطغيان والجور من أي سلطة صدرت سياسية أو دينية أو اجتماعية أو غيرها وبالخصوص السلطة السياسية, ولن يطول اختبائي مع أنني قادر على الاختباء سنين عديدة، ولسوف أخرج من مخبئي في الأسابيع القادمة وفي الوقت المناسب بمشيئة الله تعالى حينما تهدأ العاصفة وتنحني للجبال الشامخة, أو تكون هناك المصلحة الرسالية، ولن يثنيني إرهابهم بالسجن، أو القتل لأنه لي في الترهيب بالسجن أسوة بسيرة نبي الله يوسف (عليه السلام) الذي (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ)، ولأن السجن لي سيزيد شعلة الكرامة اتقاداً, وأما القتل فلي أسوة بموقف السحرة بعد أن تحرروا من عبودية الطاغي وآمنوا بالله حيث (قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ * إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَن كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ) عندما هددهم الطاغي فرعون بالقتل حيث (قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ) ولأن القتل لي سيجعل ثمرة الكرامة دانية قطوفها.

هناك الكثير من الأشياء تنحني أمام العاصفة, ولكن الجبال تأبى إلا أن تبقى شامخة أمام أعتى العواصف إلى أن تروضها، وتطفئ نائرة غضبها, ولذلك مهما كانت العواصف عاتية, فإنها لا محالة ستطأطئ رأسها انحناء للجبال الشامخة.

 موقع الشيخ الشهيد نمر باقر النمر (قدس)