البحث القرآني عند المسيحيين

 

إن التعرف على أبحاث ودراسات المفكرين والمحققين المسيحيين حول القرآن الكريم مهمٌ ومفيد في مجالين أساسيين: 
المجال الأول : معرفة الرأي الاخر ونظرياته عن الاسلام وكتابه الكريم ورسوله الصادق الأمين 
المجال الثاني : تشخيص موارد الشبهة التي يقع فيها أمثال هؤلاء المفكرين والمحققين عندما يبحثوا في ذلك 
وهذه الدراسة في القرآن الكريم وعلومه واحدة من تلك الدراسات ، كشفت عن رأي أحد المحققين المسيحيين ، وتجلّت فيها مجموعة من الشبهات لم يكن بدّ لنا من الإشارة إلى أهمها والرد عليها في الهامش بما تسع له هذه الدراسة 
« التحرير » 
بدأ التحقيق فى العلوم القرآنية ، والغور فى معارف هذا الكتاب السماوي عند المفكرين والمحققين المسيحيين ، منذ أمد بعيد نسبياً ، وتبنى عدد من المستشرقين التحقيقات القرآنية تبعاً لطبيعة مطالعاتهم فى الثقافة الشرقية والإسلامية ، فيما خاض آخرون غمار التحقيق فى القرآن ككتاب مقدس لِتَخَصُّصِهم فى مجال العلوم الإسلامية والدينية . والأهم من كل ذلك هو دراسة المعارف القرآنية من قبل رجال الكنيسة بهدف التقريب بين الأديان الإلهية ، والتعمق إلى جوهر الأديان . وهو انجاز لم يحققه آباء الكنيسة إلاّ ما ندر 
ويستحق مثل هذا الإعتراف لأتباع الأديان الأخرى التي سبقت الإسلام كل ثناء وتقدير ; لانه إعتراف بقداسة القرآن والإسلام ، وهو يعني فيما يعنيه الإقرار بأن ظهور الإسلام نسخ الأديان التي سبقته ، أو جاء مكملاً لها على الأقل 
ورغم أن البحوث الرئيسية للعلوم القرآنية صدرت في معظمها عن المحققين المسيحيين في أوربا وأميركا ، أفلح المفكرون ورجال الدين المسيحيين في الشرق والمنطقة العربية ، الذين أدلوا بدلوهم في ابداء الرأي حول القضايا الإسلامية والقرآنية ، أفلحوا في اعطاء آراء اكثر عمقاً من أقرانهم ; لأنهم لمسوا الإسلام عن قرب ، وتبحروا في حقائقه ضمن أجواء الثقافة الاسلامية نفسها ، وبالتالي كانوا في منأىً عن الكثير من الاتجاهات الفكرية الغربية . 
ومن المفكرين والعلماء المسيحيين الذين بذلوا وقتاً وجهداً كبيرين في مجال التحقيقات القرآنية ، الأب يوسف درة الحداد ، إذ أثمرت جهوده عن عدة مجلدات في العلوم القرآنية . 
ولد الاب يوسف الحداد سنة 1913 م ، في احدى قرى القدس ، وانصرف منذ أوائل عمره إلى تلقي العلوم الدينية المسيحية ; وبعد أن أنهى دراسته في كلية القديس حنا التبشيرية في القدس سنة 1939م ، أُوفد إلى حمص في سوريا وإلى بعلبك في لبنان لمدة خمس سنوات للقيام بمهام تبشيرية 
أبدى منذ بواكير سنه الدراسي اهتماماً بكسب العلوم القرآنية ودراسة المعارف الاسلامية ، وتعرّف على المزيد من الحقائق عن الاسلام بتأثير حوزة نشاطه في حمص وبعلبك ، حيث يكثر المسلمون فيها ، وآمن بأن الاديان الالهية تنطلق من جوهر واحد ، وأنه لابد من القيام بدراسات متبادلة بين الاديان للغوص في أعماقها الفكرية . 
وفي تلك الايام أصدر الرئيس السابق لمجلس الشعب المصري مصطفى المراغي بياناً ، دعا فيه المؤمنين من كافة الطوائف الدينية ، إلى المشاركة في اقامة صرح الحضارة الدينية المرتكزة على الفكر الالهي ، من خلال تعرف بعضها على الاخر ، فاستجاب الاب يوسف الحداد لهذه الدعوة ، وبدأ بحوثاً واسعة استمرت عشرين عاماً ، انصرف فيها إلى القراءة والتحقيق والتأليف ، ليخرج على المفكرين والمثقفين المسلمين والمسيحيين بثلات دورات هي : 
1 ـ دروس قرآنية ، وتتألف من أربعة مجلدات تشكل بمجموعها 2022 صفحة من القطع الوزيري . 
2 ـ في سبيل الحوار الاسلامي المسيحي ، في ستة مجلدات ، طبع منها اثنان فقط حتى الان . 
3 ـ دراسات انجيلية ـ مصادر الوحي الانجيلي ، في تسعة مجلدات ، طبع منها اربعة فقط . 
تعريف بسلسلة الدروس القرآنية 
1 ـ الانجيل في القرآن : وهو الجزء الاول من مجموعة دروس قرآنية ، وينتظم الكتاب في ثلاثة فصول ، ومقدمة يشير فيها إلى أن ما جاء في القرآن الكريم حول المسيح والانجيل والنصارى ، أمر يبعث على الفخر بين المسلمين والمسيحيين ، وأن من الضروري أن يطلع عليه كل المؤمنين بالله واليوم الاخر ، ويقول إنها حقيقة اراد نقلها إلى ابناء منطقة المشرق العربي التي يسكنها المسلمون والمسيحيون معاً ، ويدعو ابناء كل طائفة إلى التعرف على الكتاب المقدس لدى الاخر ; من أجل التقارب بين الطائفتين ، دون أن تقترن تلك الدعوة بالحث على اعتناق الدين الاخر . 
الفصل الاول من الكتاب جاء تحت عنوان القرآن والكتاب ، ويتضمن المباحث التالية : موقف القرآن من الاديان ، واشتراك الرؤية بين القرآن والكتاب المقدس حول التوحيد ، والقرآن ونسخ التوراة والانجيل ، وشهادة القرآن بصحة الكتاب المقدس في عهد نزوله ، واعتقاد القرآن بتحريف الانجيل ، واستحالة تحريف الكتب المقدسة ، ومكانة الكتب المقدسة وخاصة الانجيل في القرآن ، وموقف القرآن من اهل الكتاب . 
وتركز البحث في هذا الفصل حول اعتراف القرآن بقداسة الكتب المقدسة واهتمامه بها وبخاصة الانجيل ، حيث استعرض جميع الايات القرآنية حول الانجيل والكتاب المقدس واهل الكتاب . 
الاشكالية الرئيسية في هذا الفصل تحوم حول بحث التحريف ، فلقد جمع كل الايات التي تدور حول التحريف أو كتمان الحقائق في الانجيل ، واجاب عليها بصورتين : 
الاولى ; أنه يعتقد أن جميع آيات التحريف حول الكتب المقدسة مدنية ، ويستدل بأن بحث التحريف لم يكن قديماً وإنما طرح في المدينة بسبب الصدامات بين اليهود والمسلمين ، وأن المراد بتحريف الكتب المقدسة هو تحريف التوراة وليس الانجيل . 
الثانية ; أنه استعرض الايات واحدة فواحدة ، وطرح مسوغات لتوجيه كل آية ، ويبدو أن معظم هذه المسوغات غير مقبولة ، إلاّ أن أهمية الموضوع تكمن في الاطلاع على رؤية مفكر مسيحي ازاء هذه المسألة . 
الفصل الثاني من الكتاب حمل عنوان مريم أم المسيح في القرآن ، وأشار المؤلف في مستهل البحث إلى النصوص القرآنية الواردة في مريم ، واستنتج في ختام البحث أن القرآن اعتبر مريم العذراء آية لله في ستة جوانب ، فهي آية في الاصطفاء وفي الولادة وفي الطفولة والشباب وفي معجزة الحمل وفي ولادة المسيح وفي مواكبة ولدها المسيح في طفولته وفي حياتها وشخصيتها . 
خصص المؤلف الفصل الثالث من الكتاب للمسيح في القرآن ، وبدأه ايضاً بذكر النصوص القرآنية ، ثم تبع النصوص بالتحليل الذي أشار في بدايته إلى الصورة الرائعة التي رسمها القرآن الكريم في سورة مريم للمسيح ، من خلال وصفه باوصاف تفوق جميع الانبياء([1]) ، فضلاً عن عامة الناس : (ولنجعله آية للناس ورحمة منا) . 
ثم يشير المؤلف إلى الايات القرآنية حول عيسى في ولادته وشبابه ورسالته ، ويخصها ببحوث واسعة يضيف إليها شواهد من الانجيل . 
وفي ختام كتابه اورد المؤلف ثلاثة بحوث مستقلة ، بدأها بمسألة ألوهية المسيح في القرآن ، واعتبرها نقطة الخلاف الرئيسية بين الاسلام والمسيحية ، واعتقد في الوقت نفسه أن هذا الخلاف ظاهري وليس جوهرياً ; لان الالوهية التي يرفضها القرآن ـ حسب رأيه ـ ليست تلك الالوهية التي نسبت إلى المسيح في الانجيل ، والتثليث المسيحي لا يقصد منه التثليث الذي جاء في القرآن ، وأن الالقاب التي ذكرها القرآن للسيد المسيح هي اقرب للخالق منه إلى المخلوق . 
ولهذا أفرد المؤلف بحثاً موسعاً مهماً حول التثليث والالقاب الالهية للمسيح في القرآن ، وقارن ذلك ببعض المعتقدات الاسلامية مثل وحدة الوجود ، وببعض فقرات الانجيل ، واورد مبررات لغوية لها . 
وكتب اخيراً فصلاً في موقف اهل الانجيل من القرآن ونبي الاسلام ، ذكر فيه آيات الانجيل حول القرآن والنبي ، واحترام المسيحية للاسلام والنبي محمد(صلى الله عليه وآله) منذ بداية البعثة ، وخلص في البحث ايضاً إلى أن القرآن وقف موقف الاحترام من الانجيل والسيد المسيح . 
2 ـ بيئة القرآن الكتابية : وهو الجزء الثاني من سلسلة دروس قرآنية ، ويقع في 284 صحفة و 12 فصلاً . 
ابتدأ حداد كتابه هذا بالبحث في تاريخ نزول القرآن ومحيطه ، وحمل الفصل الاول عنوان الاديان الموجودة في الجزيرة العربية في زمن البعثة ، واشار فيه إلى الوضع الاقتصادي لشبه الجزيرة العربية، وموقعها الاستراتيجي باعتبارها حلقة الوصل بين الشرق والغرب والشمال والجنوب ، ويناقش المؤلف التوحيد التوراتي في الحجاز وجزيرة العرب ، ثم يعكف على دراسة تاريخ اليهود ووضعهم ايام البعثة النبوية ، ويعتقد أن الكثير من اليهود كانوا على دين موسى مؤمنين بالتوحيد التوراتي دون أي انحراف . 
وخصص الفصل الثاني للحديث عن النصارى في ديار العرب ، وبحث فيه بداية النصرانية ونموها في المجتمع العربي ، واشار في بحث منفصل إلى تاريخ نصارى العرب الغساسنة ، واللخميين في الحيرة وفي جنوب الجزيرة العربية واليمن والحجاز ومكة والمدينة . وكان غسان ملكاً رومياً أسس دولة نصرانية من دمشق إلى اواسط شمال الجزيرة العربية اواخر القرن الميلادي الثالث ، والغساسنة اسم لنصارى تلك الفترة . 
والنصارى اللخميون من اتباع ملك من آل لخم حكم شمال شبه الجزيرة العربية ، عاصر الساسانيين سنة 226 م . 
عبادة الاصنام في الحجاز هو العنوان الذي حمله الفصل الثالث من الكتاب ، وفيه يعتقد المؤلف أن العرب كانوا لدى مجيء الاسلام عباد اصنام في اللفظ موحّدين في المعنى ; لان عبادة الاصنام جاءت من خارج الجزيرة العربية ، وأن من اسماء اصنام العرب اللّه والرحمن والرحيم ، وهي اسماء وردت في القرآن ، وإنما وضعوها ايماناً منهم باللّه وتوحيداً له . 
واستدل الكاتب في الفصل الرابع الذي دار حول شرك العرب في القرآن بنفس الطريقة التي استدل بها في الفصل السابق . 
وفي الفصل الخامس تطرق بالتفصيل إلى شعر الجاهلية ، واعتبر أن روح الشعر الجاهلي اقرب إلى التوحيد منه إلى الشرك . 
وانطوى الفصل السادس على بحث تاريخي مهم ، حيث ذكر المؤلف الدعوات التوحيدية المستقلة التي سبقت الاسلام في المجتمع العربي وهي عبارة عن : عبادة رب السماوات في اليمن ، وعبادة الرحمن في اليمن واليمامة والحجاز ، وعبادة اللّه في مكة والحجاز ، وعبادة الرحيم عند عرب الشمال ; وعبادة رب البيت في الكعبة ، وعبادة رب العالمين في تدمر ، وعبادة اللّه اكبر في المجتمعات السامية والارمنية والعربية . 
تطرق الاب يوسف درة الحداد في الفصل السابع من كتابه الثاني من سلسلة دروس قرآنية إلى تاريخ المصلحين الموحدين العرب قبل الاسلام ، واشار فيه إلى تاريخ الحكماء والشعراء والمصلحين والانبياء الموحدين العرب . 
وافرد الكتاب فصلاً مستقلاً هو الثامن للحركة الحنيفية ; ويعتقد الكاتب أنها كانت حركة توحيدية ذات نفوذ وقدرة في الحجاز ومكة قبل الاسلام وكانت ميول اتباعها نصرانية([2]) ، ويرى أن الاسلام اهتم في كتابه السماوي بالحنيفية . 
وخصص فصله التاسع للحديث عن العلاقة بين الاثنين الاسلام والحنيفية ، واعتبر أن اطلاق اسم الامة الوسط على الحنيفية هو تنظيم لها ودمجها في الاسلام . 
الفصل العاشر من الكتاب تناول موضوع موقف النبي من الاديان في الجزيرة العربية ، وبحث فيه عهد النبي قبل البعثة ، ثم قسّم الفترة التي عاشها(صلى الله عليه وآله) في مكة إلى ثلاثة عهود هي الثأثير على المسيحية، وعهد التأثير على اليهود والتقدم نحو الاستقلال الديني ، وعهدان في المدينة هما تأسيس الامة الوسط والدفاع المسلح عنها ، وانتشار الاسلام بالفتوحات العسكرية . 
اختص موضوع الفصل الحادي عشر بمصادر القرآن ، وتوزيع الفصل على ثلاثة بحوث : اولها : التصريحات التي وردت في القرآن ـ حسب مدعيات المؤلف ـ والتي يستنتج منها أنه يعتمد على مصادر سابقة . واورد اثني عشر تصريحاً هي القرآن في زبر الاولين ، أي في كتبهم ، والارتباط باهل الكتاب ، وتحقيقات الكتاب المقدس ، والاستشهاد باهل الكتاب ، وأن القرآن يعتبر اهل الكتاب كأبنائه ، والقرآن تفصيل الكتاب ، والقرآن يعترف بأن الكتاب كان امامه ، وأن النبي يجب أن يهدي على اساس هدى الكتاب ، ووجود علاقة بين الذكر الجديد والقديم ، وكذلك وجود رابطة بين الدين الجديد والقديم ، وأن وحدة الاديان في الاعتقاد باللّه بمعنى وحدة الارتباط بين الاديان ، واخيراً فإن وحدة الكتاب المنزل تأكيد على علاقة هذا الكتاب بسائر الكتب المقدسة([3]) . 
وفي بحثه الثاني من الفصل الحادي عشر حول مصادر القرآن ، ميّز الكاتب بين تصريحات القرآن واتهامات المخالفين الذين اعتبروا القرآن استنساخاً لكتب الانبياء وما إلى ذلك ، وذكر تلك التهم واحدة واحدة واورد دلائل الرد عليها . 
وارتبط البحث الثالث بكيفية تنزيل القرآن الذي اُنزل بعلم اللّه وبواسطة الوحي ، واعتبره دليلاً قاطعاً على أنه نزل من عند اللّه . 
واختص الفصل الثاني عشر بتاريخ جمع القرآن وحفظه تحت عنوان معجزة حفظ القرآن ، واورد فيه المباحث التاريخية المعروفة حول جمع القرآن التي جاءت في كتب العلوم القرآنية . 
واختتم المؤلف كتابه بالبحوث التالية : ترجمة الكتاب والانجيل إلى العربية قبل نزول القرآن ، واميّة النبي حسب ما ورد في الايات والاحاديث ، والتأثيرات السلبية والايجابية للكتاب المقدس على البحوث القرآنية ، والتوحيد الفلسفي الكتابي في الشرق ، والتوحيد الفلسفي الافلاطوني الجديد ، وتوحيد اهل مكة المقارب للتوحيد الاسلامي . 
3 ـ اطوار الدعوة القرآنية : هذا هو عنوان المجلد الثالث من السلسلة ، وبحث فيه بالتفصيل سير تطور الدعوة إلى الاسلام في القرآن ، وقسّم المؤلف في مقدمته مسار الدعوة القرآنية إلى خمسة اقسام : 
الاول : العهد المكي الاول الذي نزلت فيه ـ على حد اعتقاده ـ السور القصيرة ، التي تنذر بالوعد والوعيد بما ينسجم مع بيئة المجتمع العربي يومذاك . 
الثاني : العهد المكي الوسيط الذي هاجر فيه عدد من المسلمين إلى الحبشة والطائف ، وحلّ عنصر جديد ليشكل محور السور القرآنية ، وهو القصص القرآني الذي يتحدث عن سيرة الانبياء الماضين والاعتبار بها في الدعوة إلى التوحيد . 
الثالث : وهو الاخير ، يقع بين الهجرتين إلى الطائف والمدينة . وهو العهد الذي فكرّ فيه النبي باستقلال المسلمين ، وقد استفاد فيه القرآن من الامثلة التي كان يستشهد بها الانجيل . 
وبعد هذه العهود تبدأ مرحلة المدينة ، إذ تبدلت دعوة الاسلام من كونها دعوة دينية إلى دولة دينية ، وتغيرت دعوة الايات القرآنية تبعاً لذلك من الدعوة إلى الدين إلى الدعوة إلى الدولة ، وعالجت الايات المدنية في معظمها فكرة بناء الدولة الدينية ، وتحديد اركان الاسلام داخل هذه الدولة لتتبلور تدريجياً الشريعة الاسلامية ، فيما تنطلق خارجها ألوية الجهاد والحروب المقدسة . 
يرى المؤلف أن ثمة عهدين لنزول القرآن في المدينة : 
الاول : عهد الدفاع المسلح ، حيث أسس القرآن بصورة مستقلة عن اهل الكتاب الامة الوسط بين اهل الكتاب والمشركين . 
والثاني : تأسيس الدولة الاسلامية ، واستمر من صلح الحديبية إلى وفاة النبي(صلى الله عليه وآله) ، وتضمّن بدء الغزوات المسلحة على مختلف الجبهات([4]) . 
بعد المقدمة ، خصص المؤلف الفصل الاول للبحث في الترتيب التاريخي للقرآن ، ناقش فيه ضوابط هذا الترتيب ، والتباين في الرأي بين المؤرخين المسلمين والمستشرقين في هذا الموضوع . 
الفصل الثاني من الكتاب تناول النظم القرآني عبر عدة بحوث ، واعتبر الاعجاز البياني هو الدليل الاهم على الاعجاز القرآني ، وهو الجزء المتمم للاعجاز على مستوى المحتوى والمضمون . 
ثاني بحوثه في هذا الفصل دار حول كيفية تنزيل الوحي . وبحث فيه النزول هل كان للفظ القرآن أم لمعناه ، مع ذكر الاراء المختلفة لعلماء الاسلام في ذلك ، فقد اعتقد البعض أن ما نزل به جبريل هو اللفظ ، واعتقد آخرون أن ما نزل هو المعنى فيما كان جبريل ينتخب اللفظ المناسب ، ورأى غيرهم أن ما نزل على النبي هو المعنى وكان(صلى الله عليه وآله) هو الذي يحدد اللفظ ، واستنتج المؤلف أن أياً من هذه الاراء لا ينافي نظرية الاعجاز لان جميع الاراء تعني اعجاز اللّه أو اعجاز نبيه المستلهم منه تعالى . 
لغة القرآن هو موضوع البحث الثالث للفصل ، حيث يعتقد كاتبه أن لغة القرآن هي اللغة التي كان يتحدت بها النبي(صلى الله عليه وآله) ، وهي اللغة العربية القرشية ، ونقل قول العلماء المسلمين بوجود مصطلحات من 50 لغة في القرآن ، مستشهداً لاثبات نظريته بدلالات علم اللغة . أما من ناحية الصرف والنحو والقواعد فالايات القرآنية تطابق ادبيات قريش . 
وانتظم البحث الرابع في موضوع العلاقة بين الايات والسور ، وكيفية نزول القرآن وتأليفه . 
ولفت البحث الخامس إلى ست نقاط في مبحث الاعجاز في نظم القرآن هي : في معرفة الوجوه والنظائر ، وفي الضمائر والتأنيث والتذكير ، وفي مقدمات الجمل ومؤخراتها ، وفي العام والخاص ، وفي المجمل والمبين وفي الاستفادة من الجمل التي يفهم في ظاهرها أنها متناقضة لكن معانيها واحدة ، وأخيراً في الايات المتشابهات ، ومسألة المحكم والمتشابه والناسخ والمنسوخ . 
وترتبط البحوث السادسة والسابعة والثامنة بالنظم القرآني ايضاً ; فقد أشار الكاتب إلى السور الموزونة التي تستخدم الموسيقى الشعرية ، ثم جرى البحث في مسألة الشعر في القرآن ، وهل فيه شيء من ذلك أم لا ؟ 
وختم بحث النظم المنطقي للايات بالحديث عن الاعجاز بين الانجيل والقرآن ، وأوضح أن في الانجيل اعجازاً معنوياً ([5]) فقط ، دون أن يزعم احد وجود اعجاز في لفظه . 
في الفصل الثالث يرى المؤلف أن العهد المكي الاول يمتد من عام البعثة (610 م) إلى هجرة المسلمين إلى الحبشة (615 م) ، حسب التقسيم التاريخي الذي تصوره للمرحلة المكية ، وذكر 36 سورة تتعلق بهذا العهد ، معتقداً أن هذه السور جميعها تحمل رسالة قصيرة تتضمن وعداً ووعيداً من الاخرة ، وهي مستلة من عادات بيئة المجتمع العربي . 
واعتبر أن النبي والقرآن كانا يهتمان في العهد الاول ـ الذي اطلق عليه اسم العهد المسيحي ـ بالاداب والسنن المسيحية ، وعلى حد قوله فإن دعوة القرآن في هذه البرهة كانت اقرب إلى الدعوة المسيحية من الفترات الاُخرى ; لان النبي ـ باعتقاد المؤلف ـ كان إلى ما قبل البعثة حنيفياً ([6]) على كتاب المسيح ، ولان الدعوة القرآنية في مراحلها الاولى هي دعوة مسيحية من ناحية موضوعاتها إلى الاصلاحات الاجتماعية ، وهي اخلاقية كالدعوة المسيحية ، وتؤكد على القيامة كثيراً كما في الدعوة المسيحية ، ولان دعوة القرآن الاولى دعوة مسيحية في شكلها كالدعوة إلى الزهد والتوبة والصلاة ، واخيراً لان الاحداث التي تناولها القرآن في تلك الفترة كانت تتعلق بالمسيحية ، كالاستشهاد بنصارى نجران في سورة البروج([7]) ، والاخبار عن انتصار الروم ـ وهم اهل كتاب ـ على فارس في سورة الروم ، وتفاصيل قصة مريم وولادة السيد المسيح في سورة مريم ، هذا مضافاً إلى أن اول حادث تاريخي للمسلمين هو هجرتهم إلى الحبشة التي كانت تؤمن بالديانة المسيحية ; واستناداً إلى كل هذا أطلق المؤلف على هذا العهد اسم العهد المسيحي([8]) . 
واطلق على العهد المكي الثاني اسم العهد الاسرائيلي ، وتميز بتأكيد القرآن على التوحيد المحض ، مصحوباً بالتعابير الشديدة العنيفة . واستطاع القرآن في هذه الفترة أن يوسع دائرته من المسيحية إلى التوراة ، ويستند إلى القصص المقبولة عند اليهود . ومرت آيات القرآن في أول هذا العهد بفترة انتقالية بين الانجيل والتوراة ، واستشهد المؤلف مستدلاً على رأيه بسور القمر و ص والاعراف والجن ويس وفاطر ومريم ، وبعدها جاء القرآن بقصص التوراة ، وسرد المؤلف 21 سورة مكية مع امثلة منها اعتبرها أدلّة على اثبات رأيه . 
وعدّد بعض الخصائص على أنها من مميزات العهد الثاني ومنها : 
اولاً : أن اسم القرآن جاء إلى جانب اسم الكتاب . 
ثانياً : أنها فترة الدعوة إلى التوحيد الخالص ، ولهذا تطرق إلى بحوث : دلالات التوحيد في القرآن ، واهتمام القرآن بالوجدان في الاستدلال التوحيدي ، وهل دلالات التوحيد من متشابهات القرآن ؟ وهل العلوم التكوينية القرآنية من المتشابهات ؟ . 
ثالثاً : نزول القصص القرآنية في هذا العهد ، ولهذا بحث المؤلف الموضوعات التالية : الهدف من نقل القصص القرآنية ، واسلوب القصص القرآني ، والتكرار والاعجاز في القصص القرآنية ، وعلاقة القصص القرآنية بالبيئة الاجتماعية العربية واهل الكتاب في عهودهم، وهل القصص القرآنية من المتشابهات ؟ وهل في القصص القرآنية تناقض أم لا ؟ . 
المرحلية المكية الثالثة وهي مرحلة العهد الوسط ، واعتبر أن السور القرآنية التي نزلت في هذا العهد يتعلق جزء منها بفتنة الارتداد عن الاسلام في مكة ، فيما عالجت سور أخريات توجيه الانذار الاخير للمكذبين ، واشار إلى تسع سور ترتبط ببحث الارتداد مستخرجاً ـ حسب منهجه ـ عناوينها وموضوعاتها ، وإلى احدى عشرة سورة تتعلق ببحث الانذار الاخير بالطريقة نفسها . 
وفي تعليقه على العهد المكي الثالث يحدد الكاتب ثلاثة وجوه للمرحلة : تحول المسلمين إلى امة توحيدية ، والبحث في الاستقلال عن اهل الكتاب ، والاهتمام بالامثال في القرآن . 
وبعد أن أنهى دراسته وتعليقاته على المراحل الثلاثة في مكة ، خرج بآرائه العامة حول القرآن المكي ، ومنها اعتقاده أن القرآن المكي اتبع نفس طريقة الانجيل في المصادر والموضوعات وطريقة الدعوة واسلوب الجدل ، واعتقاده ايضاً أن الدعوة القرآنية في مكة كانت بسيطة وليست لاهوتية ، وعملية وليست فلسفية ، واصلاحية وليست انشائية ، واخلاقية وليست تشريعية أو اعتقادية . 
ومن العناوين التي أشار إليها ايضاً : مسألة تعلم النبي ، والقرآن اسلوب جديد في النبوة والمعجزة ، وشخصية النبي في مكة ، والنبي والوحي ، والرسالة والرسول في مكة ; ليستنتج في النهاية أن القرآن المكي هو تعريب لتوحيد الانجيل([9]) . 
وحسب تصنيف الكتاب تم تقسيم العهد النبوي المدني وسير نزول القرآن في هذا العهد إلى فترتين : الاولى : عهد الامة الوسط ، والثانية : العهد الاسلامي . 
واعتبر المؤلف أن الهجرة كانت ثورة في حياة النبي وفي سيرة الرسالة ، وبعد ان عدّ أسباب الهجرة أشار إلى مشاكل النبي الجديدة مع المدنيين ، ثم استعرض تأثيرات الهجرة على الرسول والرسالة . ومن المواضيع التي طرحها في هذا الفصل : الهجرة ثورة في السيرة الشخصية للنبي ، والوحي والتنزيل واسلوب الدعوة ، والانتقال من الدين إلى الدولة ، وطريقة الدعوة ، والاستقلال عن أهل الكتاب ، وتأسيس الدين الاسلامي للامة الوسط . 
بعد مقدمته حول الهجرة أشار الكاتب إلى خصائص القرآن المدني . واعتبر أنه تميز باسلوب النظم الجديد واسلوب التشريع واسلوب تدوين التاريخ واسلوب المجادلة ، ثم رسم الخريطة التالية للسور القرآنية في العهد المدني (622 م - 632 م) ...
________________________________________
([1]) هل يقصد أن اوصاف عيسى(عليه السلام) تفوق اوصاف جميع الانبياء اطلاقاً، أم باستثناء النبي محمد(صلى الله عليه وآله)؟ وعلى الاول لو كان الكاتب ينطلق من القرآن الكريم فيما يقرره من حقائق، لوجد أن افضل من وصفه القرآن من الانبياء اطلاقاً هو النبي محمد(صلى الله عليه وآله). من ذلك وصفه تعالى في قوله الكريم : (وإنك لعلى خلق عظيم) القلم : 4 . «التحرير» 
([2]) إن الحنيفية هي ملّة إبراهيم(عليه السلام)، ولم تكن لها ارتباطات وجذور نصرانية ولا يهودية، لقوله تعالى في قرآنه الكريم : (وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا قل بل ملّة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين) البقرة: 135، وقوله تعالى: (ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين) آل عمران: 67. ولو كانت هناك مشتركات مع النصرانية فهي مع الاصل الحق دون المحرّف منها. «التحرير» 
([3]) إن الارتباط بين القرآن الكريم وسائر الكتب السماوية السابقة، كالانجيل والتوراة، هو ارتباط وحدة المُرسِل والوحي، وهو إنما يكون كذلك مع الكتب الحقّة التي انزلها على انبيائه لا المحرّفة من بعدهم; ويمتاز القرآن الكريم في مقامه الالهي على سائر الكتب السماوية الحقة التي سبقته قبل تحريفها، بأنه مصدِّقاً لها ومهيمناً عليها; لقوله تعالى في قرآنه الكريم: (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدِّقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه فاحكم بينهم بما أنزل اللّه ولا تتبع اهواءهم عمّا جاءك من الحق ... )المائدة: 48. «التحرير» 
([4]) الصحيح أن نُعنون هذه المرحلة بعنوان «انتشار الدعوة الاسلامية» في بلاد الجزيرة العربية وخارجها، لا بعنوان «الغزوات المسلحة على مختلف الجبهات» الذي يوحي بالشبهة الباطلة التي اطلقها المبشرون النصارى والمستشرقون وروّجوا لها، وهي أن الاسلام إنّما انتشر بالسيف لا بالدعوة والدليل والحجة، وأن الغزوات المسلحة ما حصلت إلاّ بسبب وقوف الزعماء والحكام الطغاة أمام الدعوة الاسلامية ومنع خطابها أن يصل إلى الناس. «التحرير» 
([5]) إنما يصح هذا في الانجيل الحق الذي أنزله اللّه على نبيه عيسى بن مريم(عليه السلام)، لا المحرّف من بعده; وقد صرح القرآن الكريم بهذه الحقيقة في آيات كريمة كثيرة، منها قوله تعالى : (ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظّاً ممّا ذكِّروا به فأَغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم اللّه بما كانوا يصنعون * يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبيّن لكم كثيراً ممّا كنتم تخفون من الكتاب ويعفوا عن كثير قد جاءكم من اللّه نور وكتاب مبين) المائدة: 14 ـ 15، وقوله تعالى: (وقالت اليهود عزير ابن اللّه وقالت النصارى المسيح ابن اللّه ذلك قولهم بافواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم اللّه أنّى يؤفكون * اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون اللّه والمسيح ابن مريم وما أُمروا إلاّ ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلاّ هو سبحانه عما يشركون * يريدون أن يطفئوا نور اللّه بأفواههم ويأبى اللّه إلاّ أن يتمّ نوره ولو كره الكافرون * هو الذي ارسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون) التوبة: 30 ـ 33، وقوله تعالى: (فويل للذين يكتبون الكتاب بايديهم ثم يقولون هذا من عند اللّه ليشتروا به ثمناً قليلاً فويلٌ لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون)البقرة: 79. «التحرير» 
([6]) إن الحنيفية هي ملّة إبراهيم لقوله تعالى: (وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا قل بل ملّة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين) البقرة: 135، وقوله تعالى: (ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين) آل عمران: 67. (راجع الهامش2). «التحرير» 
([7]) السورة التي ورد فيها أمر نصارى نجران هي سورة آل عمران الايات 61 ـ 64 وليس سورة البروج. 
([8]) إن اطلاق اسم العهد المسيحي على العهد المكي الاول ـ كما هو مدعى الاب يوسف درة الحداد ـ هو خلاف نسخ المسيحية بالاسلام، أما موارد الاشتراك المعنوي فإنما هي بين القرآن الكريم والانجيل والتوراة الحق لا المحرّفين; لانهما يشتركان في وحدة المُرسِل مع امتياز القرآن عليهما بأنه مصدق لهما ومهيمن عليهما لقوله تعالى : (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدِّقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه ...) المائدة: 48. (راجع الهامش 3) «التحرير» 
([9]) هذا في الواقع تنظير وتكرار لشبهات من سبقوه من المبشرين والمستشرقين، التي ردّها القرآن الكريم في آيات عديدة، منها قوله تعالى في رد تعلّم الرسول(صلى الله عليه وآله) وردّ أخذه من النصارى واليهود واشباههم : (أنّى لهم الذكرى وقد جاءهم رسول مبين * ثم تولّوا عنه وقالوا مُعلَّم مجنون)الدخان: 13 ـ 14، وقوله تعالى: (وقال الذين كفروا إن هذا إلاّ إفكٌ افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاءوا ظلماً وزوراً * وقالوا اساطير الاولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرةً واصيلاً)الفرقان: 4 ـ 5، وقوله تعالى : (ولقد نعلم إنهم يقولون إنما يعلّمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين)النحل: 103، وغيرها من آيات القرآن الكريم. ولو كانت هناك مشتركات معنوية فهي بين القرآن الكريم والانجيل والتوراة الحق لا المحرفين، فالقرآن الكريم مصدقٌ لهما ومهيمن عليهما لقوله تعالى : (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدِّقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه...)المائدة: 48، (راجع الهامشين 3 و 8 ) . «التحرير»

 المصدر: موقع مؤسسة السبطين العالمية