صاحِبُ الحُوت

قال تعالى:

فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ومَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ ( 98 ) ولَوْ شاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ( 99 ) وما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ويَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (100 ) يونس

اللغة:

الخزي الذل . والحين مدة من الزمن ، والمراد به هنا العمر الطبيعي للإنسان

والرجس الشيء القذر ، والمراد به هنا الكفر

الإعراب:

لولا بمعنى هلا ، وتستعمل على وجهين : الأول الطلب مثل لولا تأتينا

الثاني التوبيخ مثل لولا امتنعت عن ضلالك . وقرية على حذف مضاف أي أهل

قرية . وقوم يونس منصوب على الاستثناء المنقطع أي لكن قوم يونس ، ويونس ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة.

 

 

القصة

صاحب الحوت هو النبي يونس الذي ضاق صدره من قومه فتركهم مغاضبا ،  وقد أوصى سبحانه نبيه الكريم محمدا ( ص ) بالصبر على أذى قومه ، وان لا يعجل عليهم كما فعل يونس الذي التقمه الحوت ، فنادى وهو في بطنه : « لا إِلهً إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ » - 87  الأنبياء

( لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وهُوَ مَذْمُومٌ ) . دعا يونس ربه ، وهو في بطن الحوت ، فاستجاب دعاءه رحمة به ، ونبذه الحوت من بطنه في الفضاء ، وهو غير مذموم ولا ملوم عند اللَّه ، ولو لا دعاؤه ورحمة اللَّه لكان مذموما وملوما ، بل ولبقي في بطن الحوت إلى يوم يبعثون . وتجدر الإشارة إلى أن الذم هنا على ترك الأفضل لا على الذنب لمكان العصمة ( فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ) . من نعم اللَّه على يونس انه تعالى أخرجه من بطن الحوت ، وهو راض عنه ، ورده إلى قومه نبيا كما كان من قبل ، فانتفعوا به وبمواعظه ، ولو بقي في بطن الحوت إلى يوم يبعثون لم يكن لنبوته أي أثر ، وقوله تعالى : فجعله من الصالحين معناه ان اللَّه سبحانه يحشره غدا مع النبيين وفي زمرتهم.

وصف اللَّه سبحانه يونس بأنه من المرسلين والصالحين ، وبصاحب الحوت ، وبذي النون أي الحوت ، وأيضا وصفه بالمغاضب لقومه ، لأنه دعاهم إلى الإيمان فلم يستجيبوا له ، فدعا اللَّه عليهم ، ورحل عنهم يائسا من إيمانهم . . وفي سورة القلم أمر اللَّه نبيه محمدا ( ص ) أن يصبر ولا يتعجل بالدعاء على قومه بالعذاب كما فعل يونس : « فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ ولا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وهُوَ مَكْظُومٌ - 48 القلم » .

أما قوم يونس فقد زاد عددهم على مائة ألف : « وأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ - 147 الصافات » . وقال الرواة والمفسرون : ان قوم يونس كانوا يقيمون بنينوى من أرض الموصل ، وانهم كانوا يعبدون الأصنام ، فنهاهم يونس عن الكفر ، وأمرهم بالتوحيد ، فأصروا على الشرك شأنهم في ذلك شأن من تقدمهم من أقوام الأنبياء .

وبعد ان رحل يونس عن قومه أتتهم نذر العذاب ، وطلائع الهلاك من السماء فتابوا إلى اللَّه ، ودعوه مخلصين ان يكشف عنهم العذاب ، ففعل ، وأبقاهم إلى انقضاء آجالهم ، وهذا هو معنى قوله تعالى : ( فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ومَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ ) .

وقال المفسرون : ان قوم يونس لبسوا المسوح ، وخرجوا إلى الصحراء ، ومعهم النساء والأطفال والدواب ، وفرقوا بين كل والدة وولدها إنسانا وحيوانا ، فحن بعضها إلى بعض ، وعلت أصواتها ، واختلطت أصوات الآدميين بأصوات الحيوانات ، فرفع اللَّه عنهم العذاب ، ورجعوا إلى ديارهم آمنين .

أما يونس فقد ضرب في الأرض ، حتى انتهى إلى ساحل البحر ، فوجد جماعة في سفينة ، فسألهم أن يصحبوه ، ففعلوا ، ولما توسطوا البحر بعث اللَّه عليهم

حوتا عظيما حبس عليهم سفينتهم ، فأيقنوا انه يطلب واحدا منهم ، فاتفقوا على الاقتراع ، فوقع السهم على يونس ، فألقوه أو ألقى هو نفسه في البحر ، فابتلعه الحوت ، كما جاء في سورة الصافات : وان يونس لمن المرسلين إذ ابق - أي هرب - إلى الفلك المشحون فساهم فكان من المدحضين - أي المغلوبين بالقرعة - فالتقمه الحوت وهو مليم ، أي وهو يلوم نفسه .

وألهم اللَّه الحوت ان يطوي يونس في بطنه ، دون ان يمسه بأذى ، وفزع يونس إلى ربه يناديه ويستجير به ، وهو في جوف الحوت ( 1 ) ، والى هذا أشارت الآية 87 من سورة الأنبياء : « فنادى في الظلمات ان لا إله إلا أنت سبحانك اني كنت من الظالمين فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين » .

ثم نبذه الحوت على ساحل البحر بعد ان لبث في جوفه ما شاء اللَّه ان يلبث

قال المفسرون : ان يونس خرج من بطن الحوت كالفرخ الممتعط ، وان اللَّه أنبت عليه شجرة من يقطين يستظل بها ، وذلك حيث يقول عز من قائل : « فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ - أي في مكان خال من النبات - وهُوَ سَقِيمٌ وأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ - 146 الصافات » .

قالوا ، وعاد يونس بعد هذا إلى قومه ، ففرحوا بقدومه ، وفرح هو بإيمانهم .

( ولَوْ شاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً ) . أي لو شاء اللَّه ان يكره الناس على الايمان ويلجئهم إليه إلجاء ، أو يخلقهم منذ البداية مؤمنين - لو شاء ذلك لما وجد كافر على ظهرها ، ولو فعل لبطل الثواب والعقاب ، وكان فعل الإنسان كالثمرة على الشجرة . . وسبق نظير هذه الآية في سورة الأنعام :

« ولَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى - 35 » . . « ولَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا - 107 » وفي سورة البقرة : « ولَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ - 253 » . وتكلمنا عن ذلك مفصلا في ج 1 ص 388 .

( أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ) الخطاب لمحمد ( ص ) ، والمعنى لقد شاءت حكمته تعالى ان يكون الخيار في الانقياد إلى الحق ، أو عناده بيد

الإنسان ، ليتميز الخبيث من الطيب ، ولا أحد في مقدوره ان يعاند مشيئة اللَّه . .

فعلام - إذن - تحزن وتذهب نفسك على كفرهم وعدم إيمانهم ؟ . والقصد من هذا التخفيف عن الرسول الأعظم ( ص ) . وقد تكرر هذا المعنى في الكثير من الآيات ، منها قوله تعالى : « وما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ - 44 ق » أي بمسلط . .

التفسير الكاشف جزء4و6

الشيخ محمد جواد مغنية رحمه الله تعالى