الكلالة في القرآن الكريم


بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد واله الطيبين الطاهرين

قال تعالى:

يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَاء فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }النساء176


سبب النزول:
لما مات " عبد الرحمن بن ثابت الأنصاري " " أخو حسان بن ثابت " الشاعر المعروف في صدر الإسلام وقد خلف امرأة وخمسة أخوان، اقتسم اخوانه ميراثه بينهم ولم يعطوا زوجته شيئا مما تركه من المال، فشكت ذلك إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فنزلت الآيات الحاضرة التي تبين وتحدد سهم الأزواج من الإرث بنحو دقيق.
كما نقل عن جابر بن عبد الله الأنصاري أنه قال: مرضت فعادني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأغمي علي، فطلب النبي ماء وتوضأ لبعضه وصب بعضه الآخر علي فأفقت فقلت: يا رسول الله كيف أصنع في مالي (أي كيف يجب أن يكون أمره من بعد وفاتي) فسكت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يقل شيئا، فنزلت آية المواريث تبين نظام الإرث وتحدد أسهم الورثة.
وقد حرر الإسلام قانون الإرث الطبيعي الفطري مما علق به من الخرافات،ولحق به من رواسب التمييز العنصري الظالم الذي كان يفرق بين الرجل والمرأة حينا، وبين الكبار والأطفال حينا آخر، وجعل ملاك التوارث في ثلاثة أمور لم تكن معروفة إلى ذلك الحين:
 - النسب وذلك بمفهومه الوسيع، وهم كل علاقة تنشأ بين الأشخاص بسبب الولادة في مختلف المستويات من دون فرق بين الرجال والنساء والصغاروالكبار.
 - السبب وهي العلاقات الناشئة بين الأفراد بسبب المصاهرة والتزاوج.....................................................
 - الولاء وهي العلاقات الناشئة بين شخصين من غير طريق القرابة ................................................... ....
السبب والنسب مثل ولاء العتق، يعني إذا أعتق رجل عبده، ثم مات العبد وخلف من بعده مالا ولم يترك أحدا ممن يرثونه بالسبب أو النسب، ورثه المعتق، وفي هذا حث على التحرير والإعتاق، وكذلك ولاء ضمان الجريرة، وهو أن يركن شخص إلى آخر - لا سبب بينهما ولا نسب - ويتعاهدان أن يضمن كل منهما جناية الآخر ويدافع كل منهما عن الآخر، ويكون إرث كل منهما للآخر،و " ولاء الإمامة " يعنى إذا مات أحد ولم يترك من يرثونه ممن ذكر ورثه الإمام (عليه السلام)، أي أن أمواله تنتقل إلى بيت المال الإسلامي، وتصرف في شؤون المسلمين العامة.هذا، ولكل واحدة من هذه الطبقات أحكام وشرائط خاصة مذكورة في الكتب الفقهية المفصلة. 
التفسير:
قال الله تعالى في الآية الأولى من هذه الآيات (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين )وهو بذلك يشير إلى حكم الطبقة الأولى من الورثة (وهم الأولاد والآباء والأمهات)، ومن البديهي أنه لا رابطة أقوى وأقرب من رابطة الأبوة والبنوة ولهذا قدموا على بقية الورثة من الطبقات الأخرى.ثم إن من الجدير بالاهتمام من ناحية التركيب اللفظي جعل الأنثى هي الملاك والأصل في تعيين سهم الرجل، أي أن سهمها من الإرث هو الأصل،وإرث الذكر هو الفرع الذي يعرف بالقياس على نصيب الأنثى من الإرث إذ يقول سبحانه: وللذكر مثل حظ الأنثيين، وهذا نوع التأكيد على توريث النساء ومكافحة للعادة الجاهلية المعتدية القاضية بحرمانهن من الإرث والميراث،حرمانا كاملا.
وأما فلسفة هذا التفاوت بين سهم الأنثى والذكر فذلك ما سنتعرض له عما قريب إن شاء الله.ثم يقول سبحانه وتعالى: فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك أي لو زادت بنات الميت على اثنتين فلهن الثلثان أي قسم الثلثان بينهن.ثم قال وإن كانت واحدة فلها النصف أي لو كانت البنت واحدة ورثت النصف من التركة.هذا مضافا إلى ورود مثل هذا التعبير في الأدب العربي، إذ يقول العرب أحيانا " فوق اثنتين " ويكون مرادهم هم " اثنتان فما فوق ".وبغض النظر عن كل ما قيل أن الحكم المذكور من الأحكام القطعية المسلمة من وجهة نظر الفقه الإسلامي والأحاديث الشريفة، والرجوع إلى السنة المطهرة (أي الأحاديث) كفيل برفع أي إبهام في الجملة المذكورة إن كان.
إرث الأب والأم:
وأما ميراث الآباء والأمهات الذين هم من الطبقة الأولى، وفي مصاف الأبناء أيضا، فإن له كما ذكرت الآية الحاضرة (أي الآية الأولى من هذه المجموعة)
ثلاث حالات هي:
الحالة الأولى: إن الشخص المتوفى إن كان له ولد أو أولاد، ورث كل من الأب والأم السدس: ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد.الحالة الثانية: إن لم يكن للمتوفى ولد، وانحصر ورثته في الأب والأم، ورثت الأم ثلث ما ترك، يقول سبحانه: فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث وإذا كنا لا نجد هنا أي ذكر عن سهم الأب فلان سهمه واضح وبين وهو الثلثان، هذا مضافا إلى أنه قد يخلف الميت زوجة فينقص في هذه الصورة من سهم الأب دون سهم الأم، وبذلك يكون سهم الأب متغيرا في الحالة الثانية.الحالة الثالثة: إذا ترك الميت أبا وأما وأخوة من أبويه أو من أبيه فقط، ولم يترك أولادا، ففي مثل هذه الحالة ينزل سهم الأم إلى السدس، وذلك لأن الأخوة يحجبون الأم عن إرث المقدار الزائد عن السدس وإن كانوا لا يرثون، ولهذا يسمى أخوة الميت بالحاجب، وهذا ما يعنيه قول الله سبحانه: فإن كان له أخوة فلأمه السدس. وفلسفة هذا الحكم واضحة، إذ وجود أخوة للميت يثقل كاهل الأب، لأن على الأب الإنفاق على أخوة الميت حتى يكبروا، بل عليه أيضا أن ينفق عليهم بعد أن يكبروا، ولهذا يوجب وجود أخوة للميت من الأبوين أو من الأب خاصة
تدني سهم الأم، ولا يوجب تدني سهم الأب، ولا يحجبونها عن إرث ما زاد على السدس إذا كانوا من ناحية الأم خاصة، إذ لا يجب لهم على والد الميت شئ من النفقات. كما هو واضح.
الإرث بعد الوصية والدين:
ثم إن الله سبحانه يقول: من بعد وصية يوصي بها أو دين فلابد من تنفيذ ما أوصى به الميت من تركته، أو أداء ما عليه من دين أولا، ثم تقسيم البقية بين الورثة.
(وقد ذكرنا في باب الوصية أن لكل أحد أن يوصي بأمور في مجال الثلث الخاص به فقط، فلا يصح أن يوصي بما زاد عن ذلك إلا أن يأذن الورثة بذلك). ثم قال سبحانه: آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا وهذه العبارة تفيد أن قانون الإرث المذكور قد أرسى على أساس متين من المصالح الواقعية، وأن تشخيص هذه المصالح بيد الله، لأن الإنسان يعجز عن تشخيص مصالحه ومفاسده جميعا، فمن الممكن أن يظن البعض أن الآباء والأمهات أكثر نفعا لهم، ولذلك فهم أولى بالإرث من الأبناء وإن عليه أن يقدمهم عليهم، ومن الممكن أن يظن آخرون العكس، ولو كان أمر الإرث وقسمته متروكا إلى الناس لذهبوا في ذلك ألف مذهب، ولآل الأمر إلى الهرج والمرج والفوضى، وانتهى إلى الاختلاف والتشاجر، ولكن الله الذي يعلم بحقائق الأمور كما هي أقام قانون الإرث على نظام ثابت يكفل خير البشرية ويتضمن صلاحها.ولأجل أن يتأكد كل ما ذكر من الأمور، ويتخذ صفة القانون الذي لا يحتمل الترديد، ولا يكون فيه للناس أي مجال نقاش، يقول سبحانه: فريضة من الله إن الله كان عليما حكيما وبذلك يقطع الطريق على أي نقاش في مجال القوانين المتعلقة بالأسهم في الإرث. 
سهم الأزواج بعضهم من بعض:
في الآية السابقة أشير إلى سهم الأولاد والآباء والأمهات، وفي الآية التي تليها يقول الله سبحانه: ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد ويشير سبحانه إلى كيفية إرث الزوجين بعضهما من بعض، فإن الزوج يرث نصف ما تتركه الزوجة هذا إذا لم يكن للزوجة ولد، فإن كان لها ولد أو أولاد (ولو من زوج آخر) ورث الزوج ربع ما تتركه فقط، وإلى هذا يشير تعالى في نفس الآية: فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن. على أن هذا التقسيم يجب أن يتم بعد تنفيذ وصايا المتوفاة، أو تسديد ما عليها من ديون كما يقول سبحانه: من بعد وصية يوصين بها أو دين. وأما إرث الزوجة مما يتركه الزوج، فإذا كان للزوج أولاد (وإن كانوا من زوجة أخرى) ورثت الزوجة الثمن لقوله سبحانه: فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم. ويكون لها الربع إن لم يكن للزوج الميت ولد لقوله سبحانه: ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد.على أن هذا التقسيم يجب أن يتم أيضا من بعد تنفيذ وصايا الميت أو تسديد ديونه من أصل التركة: من بعد وصية توصون بها أو دين.والملفت للنظر في المقام هو انخفاض سهام الأزواج إلى النصف إذا كان للميت ولد، وذلك رعاية لحال الأولاد.ثم إن هاهنا نقطة مهمة يجب التنبيه إليها أيضا، وهي أن السهم المعين للنساء (سواء الربع أو الثمن) خاص بمن ترك زوجة واحدة فقط (فإنها ترث كل الربع أوكل الثمن) وأما إذا ترك الميت زوجات متعددة قسم ذلك السهم (الربع أو الثمن) بينهن بالتساوي، وهذا هو ما يدل عليه ظاهر الآية مورد البحث أيضا.
إرث أخوة الميت وأخواته:
ثم أنه سبحانه بعد أن يذكر سهم الأزواج بعضهم من بعض، يعمد إلى ذكر أسهم أخوة الميت وأخواته فيقول: وإن كان رجل يورث كلالة.
وفي هذه العبارة نواجه مصطلحا جديدا ورد في موضعين من القرآن فقط،أحدهما، في الآية المبحوثة هنا، والثاني، في آخر آية من سورة النساء وهي كلمة " كلالة ".إن ما يستفاد من كتب اللغة هو اشتقاق كلالة من الكلال، وهو ذهاب القوة،فقد جاء في صحاح اللغة: الكلالة في الأصل مصدر بمعنى الكلال وهو ذهاب القوة.ولكنها استعملت في ما بعد في أخوة الميت وأخواته الذين يرثونه، ولعل التشابه يبن المعنى الأول والثاني هو أن الأخوة والأخوات يعتبرون من الطبقة الثانية في طبقات الإرث، وهم لا يرثون إلا مع عدم وجود الأب والأم والأولاد للميت ومثل هذا الفاقد للأب والأم والأبناء لابد أن يعاني من الضعف الشديد، وذهاب القوة، ولهذا قيل له كلالة، قال الراغب في كتابه المفردات: " الكلالة اسم لما عدا الولد والوالد من الورثة ".وروي أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سئل عن الكلالة، فقال: من مات وليس له ولد ولا والد، فجعله اسما للميت، كلا القولين صحيح فإن الكلالة مصدر يجمع الوارث والموروث جميعا.وأما تعبير القرآن الكريم عن أخوة الميت وأخواته بالكلالة فلعله لأن على أمثال هؤلاء ممن عدموا الآباء والأمهات والأولاد أن يعلموا أن أموالهم ستقع من
بعدهم في أيدي من يمثلون ضعفه، ويدلون على ذهاب قوتهم، ولذلك ينبغي لهم أن يصرفوها في مواضع أكثر ضرورة ولزوما، وينفقونها في سبيل المحتاجين وفي حفظ المصالح العامة. يقول الله سبحانه تعالى: وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس أي إن مات رجل ولم يترك إلا أخا أو أختا،أو ماتت امرأة ولم تترك سوى أخ أو أخت، يورث كل منهما السدس من التركة،
هذا إذا كان الوارث أخا واحدا وأختا واحدة.أما إذا كانوا أكثر من واحد ورث الجميع ثلثا واحدا، أي قسم مجموع الثلث بينهم: فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث.ثم أضاف القرآن: من بعد وصية يوصى بها أو دين أي تكون قسمة الميراث هكذا بعد أن ينفذ الورثة من التركة ما أوصى به المتوفى، أو يسددوا ما عليه من ديون، ثم قال: غير مضار أي فيما إذا لم يكن ما أوصى الميت بصرفه من الميراث وكذا الدين مضرا بالورثة، أي أن لا يكون أكثر من الثلث، لأن تجاوز الوصية أو الدين عن حد الثلث إضرار، كما أنه يتوقف إمضاء الزائد على الثلث على إذن الورثة ورضاهم بذلك، أو أن يخبر الميت عن ديون كذبا، ليحرم ورثته عن الإرث ويضر بهم، كما نصت على ذلك روايات كثيرة مروية عن رسولالله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته الطاهرين (عليهم السلام).ثم أنه سبحانه للتأكيد على هذا الحكم يقول: وصية من الله والله عليمحليم أي أن هذا المطلب وصية من الله يجب أن تحترموها، لأنه العالمبمصلحتكم وخيركم، فهو أمركم بهذا عن حكمة، كما أنه تعالى عالم بنيات الأوصياء، هذا مع أنه تعالى حليم لا يعاقب العصاة فورا، ولا يأخذهم بظلمهم بسرعة.

                                         والحمد لله رب العالمين 
                               والصلاة والسلام على محمد واله الطيبين الطاهرين

المصادر:
مجمع البيان في تفسير القرآن. الفضل بن الحسين الطبري .
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل .للشيخ ناصر مكارم الشيرازي.

منتديات مدرسة الإمام الحسين عليه السلام