العَفو والصَّفح أخلاقٌ قُرآنية

 

قال تعالى في كتابه الكريمً: ﴿فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ [الزخرف/89 ]

العفو والصفح من أصول الفضائل الإنسانيّة، والآداب الفرديّة والإجتماعية، والسلوكيّات التي حثّ القرآن الكريم عليها، وذلك حرصاً منه على أن يكفل للفرد والمجتمع التوازن المستمر في سيرة الحياة، جامعاً بين الجانب السلبي والإيجابي، مساوياً بينهما، فأمر بالعفو والصفح؛ أخذاً باليُسر والسماحة ودفع الحرج والمشقّة عن الناس في الأقوال والأفعال.

وهذا بلا شكّ يتطلّب ملكات نفسيّة تسهّل ممارسته، كسعة الصدر، والحلم، وقدرة التحمّل، وحلّ المشاكل، وتجاوز العقبات؛ وذلك لأنّ العفو ركن مهمّ من الأخلاق الفاضلة التي يُسهم معها في بناء المجتمع الإسلامي، فمن أجل السمو بهذا المجتمع يتطلّب من الإنسان المؤمن أن يعدّ فضيلة العفو امتحاناً عمليّاً يتعرّف من خلاله على حقيقة النفوس التي يتعايش معها في البيئة الواحدة.

قال تعالى: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ﴾ [المؤمنون/96 ]

يفهم من الآية الكريمة أنّ الرسول والمؤمنين مأمورون بتجاوز حالتي العفو والصفح والصعود إلى مرتبة أرقى، وهي ردّ السيئة بالحسنة، لكنّه عمل لا يتيسر لأي شخص كان، ولهذا فإنّ الآية التي جاءت في سورة فصلت تقول: ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ [فصلت/35-34 ]

العفو عند النبي (صلى الله عليه وآله):

وإذا كان الإسلام قرّر حقّ المظلوم في معاقبة الظالم على السيئة بمثلها وفق العدل الإلهي، فإنّ العفو والمغفرة من غير تشجيع على الظلم والتمادي فيه أكرم وأرحم، وقد ضرب القرآن الكريم مثالاً رائعاً في قصّة نبي الله يوسف مع إخوته، فقد عفا عنهم بعد أن أوقعوا به حسداً منهم له، وهذا في الحقيقة نوع من العفو البشري دلّ عليه الكتاب الكريم في تلك القصّة التي ذكرها بالتفصيل.

وأرقى من ذلك هو عفوّ النبي عن أهل مكّة بأجمعهم، فقال لهم: (اذهبوا فانتم الطلقاء). فقد عفا عنهم، وصفح عن أعمالهم، مع أنّه قادر على الانتقام منهم آنذاك.هكذا صفح الرسول مع أهل مكّة الذين آذوه وحاربوه؛ إذ قد بالغت قريش في إيذائه وأحكمت قبضتها منه حتى أخرجته من بين أهله وعشيرته، ولم يكتفوا بذلك بل قتلوا أصحابه، وكسروا رباعيّته، وهو مع ذلك يقول من قلب خالٍ من الحقد، ولسان صادق لا يعرف الكذب أو النفاق أو الخيانة: (اللهم أغفر لقومي فإنّهم لا يعلمون).

وهذا مثال رائع وأنموذج راقٍ يقدّمه الرسول الأعظم (من مجموعة كبيرة من الأمثلة السامية التي ضربها طيلة فترة حياته الإنسانية، فهو يطلب المغفرة عمّن أساء إليه في القول والفعل، فقد عفا عن الكثير، وتجاوز عن الكثير، وصفح عن الكثير ممّا لاقاه من قريش وحلفائها أيام دعوته إلى الإسلام، لكنّه حين تمكّن منهم لم يعاقب ولم يثأر، بل عفا وسامح وأصفح، وهذه سجيته وصفاته الحميدة، وأخلاقه النبيلة التي مثّل بها الإسلام.

ولا يظنّ البعض أنّ ذلك العفو والصفح قد يؤدّي إلى الذلّة والضعف والهوان، فإنّ ذلك غير صحيح، وإنّما هو قمّة الشجاعة، وهو غلبة الهوى، ولا سيّما إذا كان عند المقدرة على الانتصار كما هو الحال في عفو رسول الله (صلى الله عليه وآله) وصفحه، فلقد دخل مكّة فاتحاً وكانت قد ثارت عليه وتآمرت على قتله بعد أن نكلت بأصحابه، فجاءهم من منطلق القوّة والعزّة، فخضعوا له ملقين سلاحهم عاجزين عن مقاومته، فمدّوا إليه أعناقهم ليحكم فيهم، فقد مكّنه الله تعالى منهم، لكنّه عفا عنهم رغم مقدرته منهم، ضارباً بذلك للعالم وللأجيال أعلى مثلاً في العفو والصفح، وهو الأسوة الحسنة والقدوة الصالحة والمثل الأعلى للبشرية.

عبدالجليل أحمد المكراني