لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا

                         بسم الله الرحمن الرحيم

قال الله تعالى : { وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا } (1) .
المفسّرون :
ذكر بعض المفسّرين أن { لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا } هو الثناء الحسن العلي ، و ورد عن أهل البيت عليهم السلام أنه عليّ سلام الله عليه .
المناقشة :
أولا : إن الآية الكريمة هي في نبي الله إبراهيم عليه السلام حيث تبدأ الآيات بقوله تعالى : { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا } (2).
و تنتهي بآية تسبق آية البحث بقوله عزّ وجل : { فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا } (3).
فقوله تعالى : { وَوَهَبْنَا لَهُمْ } يعود على إبراهيم واسحق ويعقوب عليهم السلام .
ثانياً : قوله عزّ وجل : { وَهَبْنَا } جاء في القرآن الكريم في ثماني آيات غير آية البحث ، ستة منها في هبة الله عزّ وجل لذريةٍ أنبياء ، وواحدة في هبة أهل بيت داوود له ومنهم ولده سليمان عليهما السلام ، وأخرى هبة أخٍ نبي ، و الآيات هي :
{ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ... } (4).
{ ... وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا }.
{ وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا } (5).
{ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ } (6).
{ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى ... } (1).
{ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ ... } (2).
{ وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ } (3).
{ وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ } (4).
إذاً قوله عزّ وجل : { وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا } هو في هبة ذريّةٍ مصطفاة بالنبوّة أو الإمامة لإبراهيم وآله اسحق و يعقوب ، و ذكر ضمير الجمع العائد عليهم يُبعد أن المراد من هذه الهبة إسماعيل الولد المباشر لإبراهيم عليهما السلام ، وإلا كان القول : وهبنا له .
فالهبة هي لإبراهيم وآله عليهم السلام ، وهي رسول الله صلى الله عليه وآله - كما سيأتي عن الإمام الحسن العسكري عليه السلام – لأنه من أشرف ذرّيته و الخلق أجمعين .
و أيضاً هو رحمة من الله كما قال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } .
وفي الحديث النبوي : " أيها الناس إنما أنا رحمة مُهداة " ولعله يشير إلى هذه الهبة .
ثالثاً : قوله عزّ وجل : { وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا } هو استجابة لدعاء إبراهيم عليه السلام حيث قال في آية أخرى : { وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ } ، و هنا عدّة وقفات :
1 – ورد مصطلح الجعل الإلهي في فيض النبوّة و الإمامة كما في الآيات التالية :
{ ... وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا }
{ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ ... }
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ ... } (5) .
{ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا } (6).
{ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ... } (7).
{ ... وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا } (1).
{ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } (2).
إذاً الجعل في الآية الكريمة { وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا } يمكن في جعل نبي أو إمام .
2 – قوله عزّ وجل : { لِسَانَ صِدْقٍ } وصفٌ لمتكلمٍ معصوم ، أي جعلنا لهم ولداً ذو لسانٍ صادقٍ معصوم ، فوصفه بأن لو كان للصدق لسان لكان هو ، و نُكّر للتعظيم و التفخيم .
ولم يقل القرآن الكريم : ( لسان صادق ) لأن من مصاديقه الإنسان الثقة ، والصادق عموماً وفي الأغلب ، وهذا لا يُشترط فيه العصمة .
و لمّا كان خير الكلام العلم و الحكمة فلسان صدقٍ هو متكلّمٌ نبيٌّ أو إمامٌ يفيضُ لسانُه علماً و حكمةً بعين الصدق و العصمة ، و هو يشهد بصدق الأنبياء والرسل السابقين بكل ما جاؤا به ومنهم إبراهيم و اسحق و يعقوب عليهم السلام .
أما قولُ بعض المفسّرين أن { لِسَانَ صِدْقٍ } يعني الذكر الحسن من الناس و المؤمنين فهو بعيد عن الجعل الإلهي في الآية الكريمة من جهة ، و بعيد أيضاً عن اهتمام و غايات الأنبياء و الرسل عليهم السلام في أن يُمدحوا و يُثنى عليهم ! .
3 - قول إبراهيم عليه السلام في دعائه { فِي الْآخِرِينَ } يخصص طلبه بجعل لسان الصدق له في آخر الأمم وهي أمة الإسلام ، وهذا ينفي أن يكون معنى { لِسَانَ صِدْقٍ } الذكر و الثناء الحسن ، لأنه لو طُلب ذلك لكان مَطلوباً له في كلّ وقت و ليس { فِي الْآخِرِينَ } ، وإنما هو يطلب { لِسَانَ صِدْقٍ } نبيّاً أو إماماً في خاتمة الأمم وهي الأمة الإسلامية .
رابعاً : وصفت الآية الكريمة لسان الصدق في استجابة الله عزّ وجل لدعاء إبراهيم عليه السلام بأنه { عَلِيًّا } فقالت : { وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا } فما المراد من قوله تعالى : { عَلِيًّا } ؟
قالوا أنه من العلو و الرفعة للمدح والثناء وصفاً للسان صدق ، وهذا بالإضافة إلى ما ذكرناه في تفسير { لِسَانَ صِدْقٍ } من أن المراد نبي او وصي فقد جاء في الروايات أنه اسمٌ لسيد الأوصياء عليهم السلام ، فيكون { عَلِيًّا } بدلاً من { لِسَانَ صِدْقٍ } و كأن الآية الكريمة تقول : { وَجَعَلْنَا لَهُمْ .. عَلِيًّا } ، أو { جَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ } نعني به { عَلِيًّا } .
و يؤكد أن المراد من الجعل هو عليٌّ عليه السلام أن الآية الكريمة ذكرت هبة الله عزّ وجل لإبراهيم و آله رسول الله صلى الله عليه وآله بقوله تعالى : { وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا } – كما ذكرنا – فيكون الجعل فيها بقوله تعالى : { وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا } لإمام هو نفس النبي كما في آية المباهلة ، و سيد الأوصياء ، فهذا الجعل هو من سنخ الهبة و رتبتها في الشرف ، و بذلك تتم النعمة العظمى و المنّة الكُبرى على إبراهيم وآل إبراهيم عليهم السلام و العالمين جميعاً بمحمدٍ و عليٍّ عليهما السلام .
أهل البيت عليهم السلام :
عن الصادق عليه السلام : { وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا } " يعني علياً أمير المؤمنين عليه السلام " (1) .
وعنه عليه السلام قال : " هو علي بن أبي طالب عليه السلام عرضت ولايته على إبراهيم عليه السلام ، فقال : اللهم اجعله من ذريتي ، ففعل الله ذلك " (2).
وروى أبو بصير عن الصادق عليه السلام أن إبراهيم عليه السلام كان قد دعا الله أن يجعل له { لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ } فقال الله تعالى : { وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا * وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا } " يعني علي بن أبي طالب عليه السلام " (3) .
وعن يونس بن عبد الرحمان ، قال : قلت لأبي الحسن الرضا عليه السلام : إن قوماً طالبوني باسم أمير المؤمنين عليه السلام في كتاب الله عزّ وجل ، فقلت لهم من قوله تعالى : { وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا } ؟
فقال : " صدقت هو هكذا " (4) .

تفسير علي بن إبراهيم : { وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا } يعنى لإبراهيم وإسحاق ويعقوب { مِنْ رَحْمَتِنَا } يعني رسول الله صلى الله عليه وآله { وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا } يعني أمير المؤمنين عليه السلام ، حدّثني بذلك أبي ، عن الإمام الحسن العسكري عليه السلام (1).
و في دعاء الندبة المروي عن صاحب الأمر عجّل الله فرجه : " وبعض اتخذته لنفسك خليلا ، وسألك لسان صدق في الآخرين ، فأجبته ، وجعلت ذلك عليا " (2) .
وعن سلمان المحمدي مشيراً الى علي عليه السلام : ... هذا الذي قال الله تعالى فيه : { وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا } (3) .
وعن ابن عباس ان النبي صلى الله عليه وآله قال : " قال لي ربّي تبارك وتعالى : إنّي أنا العلي الأعلى ، اشتققت اسم عليٍّ من اسمي فسمّيته علياً .
ثم أنزل عليّ بعقب ذلك : { وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا } (4).

و الحمد لله رَبّ العالمين

 

(1) - سورة مريم : 50 .

(2) - سورة مريم : 41 .

(3) - سورة مريم : 49 .

(4) - سورة العنكبوت : 27 .

(5) -سورة مريم : 53 .

(6) - سورة الانبياء : 72 .

(1) - سورة الانبياء : 90 .

(2) - سورة العنكبوت : 27 .

(3) - سورة ص : 30 .

(4) - سورة ص : 43 .
(5) – سورة الحديد : 26

(6) - سورة الفرقان : 35 .

(7) - سورة الأنبياء : 73 .



(1) - سورة الفرقان : 74 .

(2) - سورة السجدة : 24 .


(1) - بحار الأنوار - العلامة المجلسي 36 : 59.

(2) - بحار الأنوار - العلامة المجلسي 36 : 57 .

(3) - بحار الأنوار - العلامة المجلسي 35 : 59.

(4) - بحار الأنوار - العلامة المجلسي 36 : 57.

(1) - بحار الأنوار - العلامة المجلسي 12 : 93.

(2) - إقبال الأعمال - السيد ابن طاووس 1 : 505 .

(3) - الثاقب في المناقب - ابن حمزة الطوسي : 130.

(4) - ألقاب الرسول وعترته - من قدماء المحدثين : 20 .
.