القرآن معجزة إلهية

 

قد علم كان عاقل بلغته الدعوة الاسلامية ، أن محمّداً (ص) بشر جميع الاُمم بدعوتهم إلى الإسلام ، وأقام الحجّة عليهم بالقرآن ، وتحداهم بإعجازه ، وطلب منهم أن يأتوا بمثله وإن كان بعضهم لبعض ظهيراً ، ثم تنزل عن ذلك فطلب منهم أن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات ، ثم تحدّاهم إلى الإتيان بسورة واحدة.

وكان من الجدير بالعرب ـ وفيهم الفصحاء النابغون في الفصاحة ـ أن يجيبوه إلى ما يريد ، ويسقطوا حجّته بالمعارضة ، لو كان ذلك ممكناً غير مستحيل. نعم كان من الجدير بهم أن يعارضوا سورة واحدة من سور القرآن ، ويأتوا بنظيرها في البلاغة ، فيسقطوا حجّة هذا المدعي الذي تحدّاهم في أبرع كمالاتهم ، وأظهر ميزاتهم ، ويسجلوا لأنفسهم ظهور الغلبة وخلود الذكر ، وسمّو الشرف والمكانة ، ويستريحوا بهذه المعارضة البسيطة من حروب طاحنة ، وبذل أموال ، ومفارقة أوطان ، وتحمّل شدائد ومكاره.

ولكن العرب فكّرت في بلاغة القرآن فأذعنت لأعجازه ، وعلمت أنها مهزومة إذا أرادت المعارضة ، فصدق منها قوم داعي الحق ، وخضعوا لدعوة القرآن ، وفازوا بشرف الإسلام ، وركب آخرون جادة العناد ، فاختاروا المقابلة بالسيوف على المقاومة بالحروف ، وآثروا المبارزة بالسنان على المعارضة في البيان ، فكان هذا العجز والمقاومة أعظم حجّة على أن القرآن وحي إلهي خارج عن طوق البشر.

وقد يدعي جاهل من غير المسلمين : أن العرب قد أتت بمثل القرآن وعارضته بالحجّة ، وقد اختفت علينا هذه المعارضة لطول الزمان. وجواب ذلك : أن هذه المعارضة لو كانت حاصلة لاعلنتها العرب في أنديتها ، وشهرتها في مواسمها وأسواقها. ولاخذ منه أعداء الاسلام نشيداً يوقّعونه في كلّ مجلس ، وذكرا يرددونه في كلّ مناسبة ، وللقنه السلف للخلف ، وتحفظوا عليه تحفظ المدعي على حجّته ، وكان ذلك أقرّ لعيونهم من الاحتفاظ بتاريخ السلف ، وأشعار الجاهليّة التي ملأت كتب التاريخ ، وجوامع الأدب ، مع أنا لا نرى أثراً لهذه المعارضة ، ولا نسمع لها بذكر. على أنّ القرآن الكريم قد تحدّى جميع البشر بذلك ، بل جميع الإنس والجنّ ، ولم يحصر ذلك بجماعة خاصة. فقال عز من قائل : ( قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ) [ ١٧ : ٨٨ ].

ونحن نرى النصارى وأعداء الإسلام ، يبذلون الأموال الطائلة في الحط من كرامة هذا الدين ، والنيل من نبيّه الأعظم ، وكتابه المقدّس ، ويتكرّر هذا العمل منهم في كلّ عام بل في كلّ شهر. فلو كان من الميسور لهم أن يعارضوا القرآن ، ولو بمقدار سورة منه ، لكان هذا أعظم لهم في الحجّة ، وأقرب لحصول الأمنية ، ولما احتاجوا إلى صرف هذه الأموال ، وإتعاب النفوس.

( يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) [ ٦١ : ٨ ].

على أن من مارس كلاماً بليغاً ، وبالغ في ممارسته زماناً ، أمكنه أن يأتي بمثله أو بما يقاربه في الاُسلوب ، وهذا مشاهد في العادة ، ولا يجري مثل هذا في القرآن ، فإن كثرة ممارسته ودراسته ، لا تمكن الانسان من مشابهته في قليل ولا كثير ، وهذا يكشف لنا أن للقرآن اُسلوباً خارجاً عن حدود التعليم والتعلّم ، ولو كان القرآن من كلام الرسول وإنشائه ، لوجدنا في بعض خطبه وكلماته ما يشبه القرآن في اُسلوبه ، ويضارعه في بلاغته. وكلمات الرسول (ص) وخطبه محفوظة مدونة تختص باُسلوب آخر. ولو كان في كلماته ما يشبه القرآن لشاع نقله وتدوينه ، وخصوصاً من أعدائه الذين يريدون كيد الإسلام بكلّ وسيلة وذريعة. مع أنّ للبلاغة المألوفة حدوداً لا تتعدّاها في الأغلب ، فإنا نرى البليغ العربي الشاعر أو الناثر تختصّ بلاغته في جهة واحدة ، أو جهتين أو ثلاث جهات ، فيجيد في الحماسة مثلاً دون المديح ، أو في الرثاء دون النسيب ، والقرآن قد استطرد مواضيع عديدة ، وتعرض لفنون من الكلام كثيرة ، وأتى في جميع ذلك بما يعجز عنه غيره ، وهذا ممتنع على البشر في العادة.

 

مقتبس من كتاب البيان في تفسير القرآن