ليشهدوا منافع لهم

 

الأغراض الفردية والاجتماعية للعبادات:

يُعدُّ الإسلامُ الفردَ الصالح نواة للمجتمع الصالح. وهذا يعني أن الهدف النهائي هو المجتمع وليس الفرد. ولذا إذا تعارضت مصلحة الفرد مع مصلحة الجماعة قدّمت مصلحة الجماعة على الفرد.

من هذا المنطلق نجد أن العبادات التي هي في أصلها تكليف فردي، أن هدفها العميق ليس إصلاح الفرد فقط، وإنما قيام المجتمع الصالح.

فالصلاة التي تهدف إلى تطهير الفرد من الدنس بردعه عن فعل الفحشاء والمنكر، هدفها أيضاً تخليص الغير من شرور الفرد، لأن الفواحش لا يمارسها الفرد إلا مع الغير.

والزكاة التي تهدف إلى تطهير النفس من عبودية المادة، لا يكون مجال إنفاقها وفاعليتها إلا في المجتمع، فتكون التأمين الضروري لكل فرد عاجز في المجتمع لكي يعيش عيشة إنسانية مرضية.

أما الصوم الذي هو دورة تدريبية سنوية للفرد على التقوى، والالتزام بالواجبات والمحاسبة الدقيقة للنفس على كل عمل، فهو في نفس الوقت شعور بحرمان الفقير من كل حاجاته، حتى الحاجات الضرورية كالطعام والشراب والكساء، فيكون هدفه الاجتماعي مساعدة العاجز والبائس ومشاركة المساكين في آلامهم ومآسيهم.

أما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهما من العبادات ذات الغرض الجماعي الظاهر، فكل انحراف يراه المسلم في المجتمع عليه إصلاحه ليحافظ على المجتمع السليم. وبما أنه لا انفصال بين مصلحة الفرد ومصلحة المجتمع، فإن إصلاح المجتمع تعود عليه ثماره بشكل غير مباشر.

من هذا تظهر وحدة المجتمع في الصلاح والفساد. فكل ما يحدث في جزء من المجتمع يعود تأثيره على كل فرد في المجتمع، وهو فحوى قول النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم):

« مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ».

فليس لأحد أن يعيش في معزل عن غيره، ويزعم أنه حر فيما يعمل، طالما أنه خاضع للتأثير المتبادل بينه وبين مجتمعه.

وقد صوّر لنا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هذه الحقيقة الواقعة خير تصوير في حديثه عن قوم ركبوا فبدأ أحدهم يحفر في الجزء الذي اختص به. يقول (صلى الله عليه وآله وسلم):

« مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضُهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنّا خرقنا في نصيبنا خَرْقاً ولم نؤذ من فوقنا. فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإذا أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً ».

من هذا المنطلق وقياساً على ما سبق، نجد أن فريضة الحجّ ذات مقاصد فردية واجتماعية على حد سواء، شأنها في ذلك شأن كل العبادات.

وبما أن فريضة الحج مبتناة على اجتماع الناس بأعداد كبيرة، ومن شتى أصقاع الأرض ودول الإسلام، فإن الأهداف الاجتماعية فيها لابُدّ من أنها هي الغالبة.

ونحن إذا نظرنا إلى الحجّ في معناه ومبتغاه نجد أن هدفه تصفية النفوس وتزكيتها من أدران الخطيئة والذنوب، وذلك بوفادتها إلى بيت الله الذي يغفر الذنوب، واستضافتها في داره، وطوافها حول كعبته، كدلالة على خلوصها من قيود الشيطان وسلطته، وارتباطها الوحيد بعمود الإسلام وقبلته.

لكن طواف المسلمين في جموعهم المحتشدة حول الكعبة يعطي ـ إضافةً لذلك ـ المعنى التوحيدي للمجتمع الإسلامي، فهم في طوافهم حول مركز واحد مع اختلاف ألوانهم وأجناسهم، يشبهون نجوم السماء التي انتظمت في مجرة واحدة هي مجرة الإسلام. أو إنهم كالإلكترونات في الذرة يتشابهون في تكوينهم وطبيعتهم ولا يختلفون إلاّ بمقدار قربهم وبعدهم عن النواة. وتتجسم معاني الإسلام الحقيقية في هذا اللقاء الفريد، وقد خلع الجميع زينة الدنيا ليتحلوا بزينة الدين.

ولا فرق بينهم في موقفهم هذا بين أبيضهم وأسودهم ولا بين فقيرهم وغنيهم ولا بين رئيسهم ومرؤوسهم ولا بين عربيهم وأعجميهم.

يقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): « لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأبيض على أسود، ولا لحر على عبد، إلاّ بالتقوى ».

وإذا كان الإسلام حريصاً كل هذا الحرص على تنقية نفس الفرد المسلم في فريضة الحج مما علق بها من أرجاس وأدران، فما أحراه أن يهدف في هذه الفريضة إلى تنقية المجتمع الإسلامي مما يعانيه من أمراض وأسقام وتخليصه مما يعتوره من محن وأخطار.

لذلك كان الحجُّ أنجح فرصة لاجتماع المسلمين على طاولة واحدة، ومدارستهم لمشاكل المسلمين ووضعهم الخطط القويمة لدفع الأخطار المحيقة بهم.

فيكون الحج عبارة عن لقاء أخوي في كنف الله وعلى مائدة الله لدراسة شؤون أمة الله.

يقول سبحانه في سورة الحج:

(وأذّن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق * ليشهدوا منافع لهم...).

وهل أعظم منفعة للمسلمين من أن يتدارسوا ما ينفعهم وما يضرهم، فيعملون على ما ينفعهم ويدرَءُون عنهم ما يضرهم.

ونحن لسنا مبتدعين في هذا المعنى بل متمثلين بأعمال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وسيرته. فلقد كان (صلى الله عليه وآله وسلم) يتخذ من الحج منبراً لتوجيه المسلمين وإرشادهم بما يحفظ كيانهم وسلامتهم. ومن أبرز ذلك خطبته المشهورة في حجة الوداع التي حذّر فيها المسلمين من بعض الأُمور التي تضعفهم وتزعزع كيانهم، ومنها أن لا يقتتلوا فيما بينهم، وأن لا يثيروا النعرات القبلية التي كانت بينهم كالمطالبة بالثأر، يقول (صلى الله عليه وآله وسلم):

« أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلغت اللّهم اشهد.. من كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها وإن ربا الجاهلية موضوع.. وإن دماء الجاهلية موضوعة.. وإن مآثر الجاهلية موضوعة.. أيها الناس، إنما المؤمنون إخوة، ولا يحل لامرئ مال أخيه إلا عن طيب نفس، ألا هل بلغت اللّهم اشهد.. ألا لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض، فإني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا، كتاب الله ربكم ».

الحجُّ هو العبودية الخالصة لله سبحانه:

والآن لننظر في حقيقة ما يفيدنا به الحج. فهل نحن نفهم الحج على حقيقته ؟! إن الحج هو العبودية الخالصة لله وحده. إننا نرجم إبليس ثم نرزح أمام نير إبليس ونقع في قبضته.

هل الحجُّ مجرد طقوس بلا معنى ولا هدف ؟

لقد أراد بعض المسلمين أن يجمدوا معنى الحج ويحجروا عليه ليجعلوه جسداً بلا روح، وطقوساً بلا معنى. وكذلك الصلاة، فمتى كانت الصلاة مجرد حركات وسكنات، إذن لم تكن في حقيقتها تحمل معنى التجرد من كل عبودية لغير الله..

كيف يرتع بعض المسلمين في أكناف المستعمرين الكافرين، ويأتمرون بأمرهم ويستمدون القوة منهم، ثم يدّعون الإسلام، والعبادة للواحد الديان..

يقول تعالى: (أرأيت الذي ينهى * عبداً إذا صلى) فكيف بمن ينهى أحداً عن أية عبادة لله. كيف يجوز لأحد من المسلمين أن ينهى مسلماً عن ممارسة أية عبادة لله في بيته الحرام، الذي جعله مثابةً للناس وأمناً؟ (وما نقموا مِنهم إلاّ أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد).

 

إن الحج أعظم فرصة وأكبر سوق لتجارة التقوى والتقرب من الله، وكل من يمنع أحداً من المسلمين من ممارسة هذا الحق فهو مخالف لحقيقة الإسلام.

يجب أن ينتبه كل مسلم مهما كان نوعه ولونه أن الحج دورة تدريبية يتحرر فيها المسلم من أنواع الخضوع والعبودية لغير الله، على مستوى الفرد والجماعة، وأنه مطالب إذا رجع إلى وطنه أن يعمل على جعل مجتمعه متحرراً من كل أنواع الاستعباد والاستعمار للقوى غير الإسلامية، وخاصة تلك التي تحارب الإسلام وتريد محوه ومحقه.

إن الحج هو امتحان لنا واختبار لمدى إيماننا ويقيننا بخالق الوجود، الذي هو خالق كل نور وكل طاقة وكل قوة وكل شيء، والذي هو فوق كل فرد عظيم أو دولة عظمى. يقول سبحانه في سورة النور:

(الله نور السموات والأرض، مثل نوره كمشكاة فيها مصباح، المصباحُ في زُجاجة الزجاجةُ كأنها كوكب درّي، يوقد من شجرة مباركة زيتونة، لا شرقية ولا غربية...).

لنستمد من ربنا وحده عزيمتنا وعزتنا، ولنقتبس من ديننا قوتنا وهدينا.. ولنتذكر أن قوة إسلامنا من قوة اتحادنا وتضامننا، حتى نكون يداً واحدة على كل أعداء الإسلام.. عند ذلك نفرض لنفسنا السلام، سلام العزة والإسلام، وليس سلام الخضوع والإستسلام.

النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم ترهبه قوة الشرق ولا قوة الغرب، حين بدأ دعوته الحقة بحفنة من المؤمنين الصادقين، فلما رأى الله منهم صدق النية أنزل عليهم النصر، وقد تألبت عليهم كل قوى الشر من أحزاب العرب واليهود، فلم يزدهم ذلك إلا إيماناً وتسليماً.

هذه هي صفة المؤمن الحق، الذي لا يتوجّه إلاّ الى الله، ولا يتوكل إلاّ على الله، ولا يستمد القوة إلاّ من الله سبحانه.

 

بهذا الإيمان الصحيح فتح أجدادنا الدنيا وأصبحوا أعزّة، وبدون هذا الإيمان الصحيح استعمر الكفار بلادنا وأصبحنا أذلة..

يقول الفيلسوف الكبير الدكتور محمد إقبال (رحمه الله) في شعره المترجم:

كنا نقدم للسيوف صدورنـا    لم نخشَ يوماً غاشماً جبــارا

وكأن ظل السيف ظِل حديقة    خضراء تنبت حولنا الأزهارا

كنا جبالا في الجبال وربمـا   سرنا على مرج البحار بحارا

بمعابد الإفرنج كان أذاننــا   قبل الكتائب يفتح الأمصـارا

لم نخشَ طاغوتاً يحاربنا ولو   نصب المنايا حولنا أسـوارا

ندعو جهاراً لا إله سوى الذي  صنع الوجود وقدّر الأقـدارا