أم القرى في القرآن

 

قال الله تبارك وتعالى:
(ربّنا إنّي أسكنتُ من ذرّيتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرّم ربّنا ليُقيموا الصلاة فاجعل أفئدةً من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الّثمرات لعلّهم يشكرون)( إبراهيم : 37).
تضمّ المدينة الفاضلة نقطةً مركزية وأربعةِ أركان، وتتحمل النقطة المركزية للمدينة الفاضلة مسؤولية آ«الحكومة والقيادةآ»، التي لو تتسم بالقسط والعدل، لتمَّ في ظلها تأمينُ آ«ازدهارآ» المنطقة و آ«أمنها وحريتهاآ». وإقامةُ الاقتصاد السالم، وتعلقُ القلوب وإحساسها بالهدوء والسكينة في هذه المدينة.
إنّ المدينة الفاضلة بحاجة إلى أُناس يتمتعون بما يلي:

1 ـ التقوى في الأمور الأخلاقية.
2 ـ مراعاة الأمور العائلية والحقوق المتبادلة للأُمهات والآباء والأبناء.
3 ـ العمل على ضمان الأمن الوطني والحرية والأخوة والمساواة، ونحوها في المسائل الاجتماعية.
4 ـ الابتعاد عن الاستبداد والاستعمار والاستثمار في المسائل السياسية، وبناءً على ذلك، فإنّ المدينةَ ستكون فاضلةً، باحتوائها على جميع هذه الأمور.
ولو أراد مجتمعٌ ما أن يقيم مدينةً فاضلة، من المؤكد أنه لا يمكن تحقيق ذلك بغير امتلاك الحكومة، وإنّما تكون الحكومة فاضلةً، عندما يقف على رأس الهرم فيها حاكمٌ واف ومتحرر، ومدير ومدبّر، يأخذ على عاتقهِ إدارة أمور الدولة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، أن تكون أُمّةُ تلك المدينة أمةً واعية ومطيعة، فلا الإمام قادرٌ على إقامة المدينة الفاضلة من دون آ«الأمّة الواعيةآ»، ولا الأمّة الواعية من دون آ«الإمام» تستطيع أن تقيم المدينة الفاضلة.
وإن مسيرة الأنبياء الإبراهيميين على خُطى إبراهيم الخليل من هذا القبيل، حيث إنهم يطلبون في أدعيتهم وتوسلاتهم إلى الله ـ تبارك وتعالى ـ أن يهديهم إلى السبيل ذاته الذي عيّنه القرآن الكريم للناس على لسان إبراهيم الخليل (عليه السلام). وفي الوقت ذاته الذي سعوا فيه إلى إعداد أركان المدينة الفاضلة، فإنهم كانوا يسعون إلى أن تلوح بارقةُ حبٍّ تنفخ الروح في مساعيهم.
لقد نظّم إبراهيم الخليل ـ معمار ومهندس المدينة والحضارة ـ خارطةَ المدينة الفاضلة على أساس الأركان الأربعة والنقطة المركزية سائلا ذلك من الله ـ تبارك وتعالى ـ والأركان الأربعة تشمل:
  
1 ـ البناء والإعمار.
2 ـ الأمن.
3 ـ الاقتصاد السالم.
4 ـ عواطف وسكينة القلوب.
يمكن أن تكون مكّة (أمَّ القرى)( الأنعام : 92; الشورى : 7) وعندئذ تصبح أنموذج المدينةِ الفاضلة. إن إبراهيم الخليل هو باني الكعبة، وهو الذي جعل البلد غير ذي الزرع أمَّ القرى، ومن أجل أن تتحول هذه الديار غير ذي الزرع إلى أمّ القرى، ويرتفع منها النداء إلى العالم أجمع ويشتاق ساكنوا الأرض للقاء هذه الفلوات، فقد توجّه لله ـ تعالى ـ بالسؤال:( ربّ اجعل هذا بلداً آمناً وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فامتّعُهُ قليلا ثم أضطرُّهُ إلى عذابِ النّار وبئس المصيرُ)(البقرة/126) (وإذ قال إبراهيمُ ربّ اجعل هذا البلدَ آمِناً واجنُبني وبنيَّ أن نعبدَ الأصنام) (إبراهيم/35)
     
1 ـ (ربّ اجعل هذا بلداً ...) اللهم! تفضل على هذا الوادي غير ذي الزرع بالإعمار واجعله بلداً، ومن البديهي أنه لو أريد للوادي غير ذي الزرع أن يتحول إلى مدينة فاضلة، لابدّ من إعادة بنائه وتحويله إلى مدينة أولا.
2 ـ (ربّ اجعل هذا بلداً آمناً ...) أي وفّر أسباب الأمن لأهل هذه المدينة.
3 ـ (وارزق أهلهُ من الثمرات ...) أي أمِّن الاقتصاد السالم لساكني هذه المنطقة.
وتمثل هذه الطلبات الثلاثة، ثلاثة أركان فقط من أركان أمّ القرى، وهي لا تكفي لإقامة المدينة الفاضلة وإن كانت لازمة ومهمة.
ومن هنا فإن سيدنا إبراهيم(عليه السلام) طلب الركن الرابع أيضاً من الله ـ تعالى ـ فقال: (... فاجعل أفئدةً من الناس تهوي إليهم ...)( إبراهيم : 37).
ومن هنا فإنّ المدينة إنما تصبح فاضلة عندما تهوي إليها القلوب وتتعلق بها. اللهم! فاجعل أفئدةً من الناس ترنوا إلى هذه البلاد وتهاجر إليها، من دون أن ترحل عنها.
فلو فقد آ«الأمنآ» في البلد، و «الحرية» جرّت الويلات، ولم يبق «للاقتصاد السليم» أثرٌ يذكر، ولاتّضح من ذلك بأن ثقافة أهل ذلك البلد قد تدنّت واضمحلّت، ولا أثر من مراعاتهم للمسائل الأخلاقية، وتهيئ أرضية الرحيل
عن البلد، حتى بفقدان واحدة من تلك الثلاثة، إذن ليس بوسع العاقل أن يحيا في مدينة، تفتقد أركان المدنيّة هذه.
قال الإمام عليُّ بن أبي طالب (عليه السلام): «ليس بلد أحقّ لك من بلد، خير البلاد ما حَملك» ( غرر الحكم ودرر الكلم 83 : 5); نعم، خير البلاد وأفضلها ما كان يضمن إمكانية التطور والنمو للإنسان.
لقد لاحظ الأنبياءُ الإبراهيميّون أن النبيَّ إبراهيم (عليه السلام) قد أولى عناية خاصة أيضاً بالركن الرابع عند دعائه: اللهم! اجعله بلداً من جهة، وآمناً من جهة أخرى، وذا اقتصاد سليم من جهة ثالثة، إلاّ أنّ الفضائل الثقافية والمزايا الأخلاقية أيضاً ضرورية ولازمة لنموّ الإنسان ورقّيهِ، لكي لا تنفر القلوب عن هذه البلاد، فضلا عن ولوهها إليها.
أجل، فقد اعتبر مهندس المدنيّة والحضارة إبراهيم الخليل (عليه السلام) هذه الأصول الأربعة لازمةً وضروريةً لتأسيس أمّ القرى.
  
المحور الأساس لهذه الأركان:
إنّ المحور الأساس والقطب الذي تدور في فلكه هذه الأركان الأربعة، والعنصر البنّاء الذي يجعل بلداً ما أمناً، ويمتلك اقتصاداً سليماً، مؤمِّناً حرية الناس وجاعلا أفئدتهم تهوي إليه، ذلك العنصر هو الحكومة المتبلورة في ظل الوحي، وقيادة الإنسان الكامل (المعصوم)، الحكومة المتشكّلة في ظل سلطة رجل الدين والسياسة، المدير والمدبّر، والواعي، وفي ظل القانون المدوّن على أساس التوجيهات السماوية.
ومن هنا، فإن إبراهيم الخليل (عليه السلام) لم يجعل من هذا المعنى وهذا العنصر ركناً خامساً في تسلسل الأركان الأربعة فحسب، بل عدّه العنصر الأصل، والمحور الذي تطوف حوله الأركان الأربعة.
(ربّنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آياتِكَ ويعلّمهم الكتابَ والحكمةَ ويُزكّيهم إنّك أنت العزيز الحكيم)( البقرة : 129).
اللهم! لئن طلبت منك أن تجعل هذا المكان بلداً، وآمناً، وينعم بالاقتصاد السليم، وأن يعي الناس بعضهم بعضاً ... وإلى غير ذلك، فلا يمكن أن يتيسر قيام كلّ ذلك دون حكومة سماوية، فابعث فيهم رسولا مرسلا من قبلك ليتلو على الناس قوانينك ويعلمها لهم، ويطلعهم على الحِكَم السماوية، ويهذبهم بالتربية الصحيحة.
اللهم! إنّ الذين ينعمون بالأمن والاقتصاد السليم والحريّة، لئن لم يستمدّوا العون من مدرسة وحيك، ستنقلب نعمهم إلى نقمات.
فابعث اللهم فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك، ولا يجعلهم يراوحون في مرحلة قراءة القرآن فحسب، بل يأخذ بأيديهم إلى مرحلة العلم والعمل لكي يفقهوا الكتاب والحكمة، ويصبحوا من أهل الكرامة وتهذيب النفوس و ... .
ومن هنا يجب القول: بأنّ واجب النبيّ إنّما يكمن في تأسيس وإقامة الحكومة وليس الوعظ والنصح فقط. ولو أن رسالة الأنبياء أمكن اختصارها بالوعظ والنصحية، لأصبحت قوافل الأنبياء على طول التاريخ غير ذات معنى. ولما تعرض أكثر الأنبياء للقتل.
وهذهِ موارد متعددة من آيات القرآن الكريم تذكر ذلك، وتتحدث عن استشهادهم سلام الله عليهم:
(قل فلِمَ تقتُلون أنبياءَ الله من قبلُ إن كنتم مؤمنين)( البقرة : 91).
(... ذلك بأنّهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتُلون النبيينَ بغير الحقِّ)( البقرة : 61).
(إنَّ الذين يكفُرون بآيات الله ويقتُلون النبيين بغير حق)( آل عمران : 21).
(... وقتلهم الأنبياءَ بغير حقّ)( آل عمران : 181; النساء : 155).
إن القرآن الكريم وفي كثير من الموارد يذكر هذه الكلمات بـ آ«الألفآ» و آ«اللامآ»، حيث يراد بذلك، أن أعداء الدين قتلوا الكثير من الأنبياء.
(وكأيّن من نبيّ قاتل معه رِبّيّون كثيرٌ)( آل عمران : 146); أي أن الكثير من الأنبياء ندبوا طائفة من الناس إلى جبهات القتال، ودعوهم لمقارعة الطواغيت.
ولو كان عمل الأنبياء مقتصراً على النشاطات الثقافية والوعي لما دعتهم الحاجة إلى المواجهات العسكرية ولا إلى المواجهات السياسية، ولم يتعرض لهم المتعرضون بالقتل والاستشهاد.
ويتضح من ذلك أنهم كانوا في صدد تأسيس الحكومة، حكومة يقفُ على رأسها قائدٌ إلهي، يتلو على الناس آيات الله، ويدلّهم إلى علوم الغيب ومعارفهِ، ويجعل الحِكَم السماوية نصب أعينهم، ويجتهد في تهذيب وتربية وتزكية الأُمّة، الأمّة التي تعيش في ظل الوحي، لا مُتسلّطَة ولا مُتَسَلَّطُ عليها، لأنه جاء في كتاب الحكمة (القرآن) (فلا تظلموا) (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا) (... لا تظلِمُونَ ولا تُظلمُونَ)( التوبة : 36; هود : 113; البقرة : 279) فإنّ مقارعة الطواغيت ومحاربة الأجانب من ضمن أوامر القرآن الكريم. وإن طردَ الاستبداد، ومحاربة الاستعمار درسٌ علّمه الوحي للمسلمين، وهذا هو محور المدينة الفاضلة.
   
   
المصدر: موقع التبيان