وأتموا الحج والعمرة

بسم الله الرحمن الرحيم

 

وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196) الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ (197)

نزلت الآيات في حجة الوداع، آخر حجة حجها رسول الله، و فيها تشريع حج التمتع.

قوله تعالى: و أتموا الحج و العمرة لله، تمام الشيء هو الجزء الذي بانضمامه إلى سائر أجزاء الشيء يكون الشيء هو هو، و يترتب عليه آثاره المطلوبة منه فالإتمام هو ضم تمام الشيء إليه بعد الشروع في بعض أجزائه، و الكمال هو حال أو وصف أو أمر إذا وجده الشيء ترتب عليه من الأثر بعد تمامه ما لا يترتب عليه لو لا الكمال، فانضمام أجزاء الإنسان بعضها إلى بعض هو تمامه، و كونه إنسانا عالما أو شجاعا أو عفيفا كماله، و ربما يستعمل التمام مقام الكمال بالاستعارة بدعوى كون الوصف الزائد على الشيء داخلا فيه اهتماما بأمره و شأنه، و المراد بإتمام الحج و العمرة هو المعنى الأول الحقيقي، و الدليل عليه قوله تعالى بعده: فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي، فإن ذلك تفريع على التمام بمعنى إيصال العمل إلى آخر أجزائه و ضمه إلى أجزائه المأتي بها بعد الشروع و لا معنى يصحح تفريعه على الإتمام بمعنى الإكمال و هو ظاهر.

و الحج هو العمل المعروف بين المسلمين الذي شرعه إبراهيم الخليل (عليه السلام) و كان بعده بين العرب ثم أمضاه الله سبحانه لهذه الأمة شريعة باقية إلى يوم القيامة.

و يبتدى هذا العمل بالإحرام و الوقوف في العرفات ثم المشعر الحرام، و فيها التضحية بمنى و رمي الجمرات الثلاث و الطواف و صلاته و السعي بين الصفا و المروة، و فيها أمور مفروضة أخر، و هو على ثلاثة أقسام: حج الإفراد، و حج القران، و حج التمتع الذي شرعه الله في آخر عهد رسول الله.

و العمرة عمل آخر و هو زيارة البيت بالإحرام من أحد المواقيت و الطواف و صلاته و السعي بين الصفا و المروة و التقصير، و هما أعني الحج، و العمرة عبادتان لا يتمان إلا لوجه الله و يدل عليه قوله تعالى: و أتموا الحج و العمرة لله الآية.

قوله تعالى: فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي و لا تحلقوا رءوسكم «إلخ»، الإحصار هو الحبس و المنع، و المراد الممنوعية عن الإتمام بسبب مرض أو عدو بعد الشروع بالإحرام و الاستيسار صيرورة الشيء يسيرا غير عسير كأنه يجلب اليسر لنفسه، و الهدي هو ما يقدمه الإنسان من النعم إلى غيره أو إلى محل للتقرب به، و أصله من الهدية بمعنى التحفة أو من الهدى بمعنى الهداية التي هي السوق إلى المقصود، و الهدي و الهدية كالتمر و التمرة، و المراد به ما يسوقه الإنسان للتضحية به في حجه من النعم.

قوله تعالى: فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه «إلخ» الفاء للتفريع، و تفريع هذا الحكم على النهي عن حلق الرأس يدل على أن المراد بالمرض هو خصوص المرض الذي يتضرر فيه من ترك الشعر على الرأس من غير حلق، و الإتيان بقوله: أو به أذى من رأسه بلفظة أو الترديد يدل على أن المراد بالأذى ما كان من غير طريق المرض كالهوام فهو كناية عن التأذي من الهوام كالقمل على الرأس، فهذان الأمران يجوزان الحلق مع الفدية بشيء من الخصال الثلاث: التي هي الصيام، و الصدقة، و النسك.

و قد وردت السنة أن الصيام ثلاثة أيام، و أن الصدقة إطعام ستة مساكين، و أن النسك شاة.

قوله تعالى: فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج، تفريع على الإحصار، أي إذا أمنتم المانع من مرض أو عدو أو غير ذلك فمن تمتع بالعمرة إلى الحج، أي تمتع بسبب العمرة من حيث ختمها و الإحلال إلى زمان الإهلال بالحج فما استيسر من الهدي، فالباء للسببية، و سببية العمرة للتمتع بما كان لا يجوز له في حال الإحرام كالنساء و الصيد و نحوهما من جهة تمامها بالإحلال.

قوله تعالى: فما استيسر من الهدي، ظاهر الآية أن ذلك نسك، لا جبران لما فات منه من الإهلال بالحج من الميقات فإن ذلك أمر يحتاج إلى زيادة مئونة في فهمه من الآية كما هو ظاهر.

فإن قيل: إن ترتب قوله: فما استيسر من الهدي، على قوله: فمن تمتع ترتب الجزاء على الشرط مع أن اشتمال الشرط على لفظ التمتع مشعر بأن الهدي واقع بإزاء التمتع الذي هو نوع تسهيل شرع له تخفيفا فهو جبران لذلك.

قلت: يدفعه قوله تعالى: بالعمرة، فإن ذلك يناسب التجويز للتمتع في أثناء عمل واحد، و لا معنى للتسهيل حيث لا إحرام لتمام العمرة و عدم الإهلال بالحج بعد، على أن هذا الاستشعار لو صح فإنما يتم به كون تشريع الهدي من أجل تشريع التمتع بالعمرة إلى الحج لا كون الهدي جبرانا لما فاته من الإهلال بالحج من الميقات دون مكة، و ظاهر الآية كون قوله: فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي إخبارا عن تشريع التمتع لا إنشاء للتشريع فإنه يجعل التمتع مفروغا عنه ثم يبنى عليه تشريع الهدي، ففرق بين قولنا: من تمتع فعليه هدي و قولنا تمتعوا و سوقوا الهدي، و أما إنشاء تشريع التمتع فإنما يتضمنه قوله: تعالى في ذيل الآية ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام.

قوله تعالى: فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج و سبعة إذا رجعتم، جعل الحج ظرفا للصيام باعتبار اتحاده مع زمان الاشتغال به و مكانه، فالزمان الذي يعد زمانا للحج، و هو من زمان إحرام الحج إلى الرجوع، زمان الصيام ثلاثة أيام، و لذلك وردت الروايات عن أئمة أهل البيت أن وقت الصيام قبل يوم الأضحى أو بعد أيام التشريق لمن لم يقدر على الصيام قبله و إلا فعند الرجوع إلى وطنه، و ظرف السبعة إنما هو بعد الرجوع فإن ذلك هو الظاهر من قوله: إذا رجعتم، و لم يقل حين الرجوع على أن الالتفات من الغيبة إلى الحضور في قوله إذا رجعتم لا يخلو عن إشعار بذلك.

قوله تعالى: تلك عشرة كاملة، أي الثلاثة و السبعة عشرة كاملة و في جعل السبعة مكملة للعشرة لا متممة دلالة على أن لكل من الثلاثة و السبعة حكما مستقلا آخر على ما مر من معنى التمام و الكمال في أول الآية فالثلاثة عمل تام في نفسه، و إنما تتوقف على السبعة في كمالها لا تمامها.

قوله تعالى: ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام، أي الحكم المتقدم ذكره و هو التمتع بالعمرة إلى الحج لغير الحاضر، و هو الذي بينه و بين المسجد الحرام.

أكثر من اثني عشر ميلا على ما فسرته السنة، و أهل الرجل خاصته: من زوجته و عياله، و التعبير عن النائي البعيد بأن لا يكون أهله حاضري المسجد الحرام من ألطف التعبيرات، و فيه إيماء إلى حكمة التشريع و هو التخفيف و التسهيل، فإن المسافر من البلاد النائية للحج، و هو عمل لا يخلو من الكد و مقاسات التعب و وعثاء الطريق، لا يخلو عن الحاجة إلى السكن و الراحة، و الإنسان إنما يسكن و يستريح عند أهله، و ليس للنائي أهل عند المسجد الحرام، فبدله الله سبحانه من التمتع بالعمرة إلى الحج و الإهلال بالحج من المسجد الحرام من غير أن يسير ثانيا إلى الميقات.

و قد عرفت: أن الجملة الدالة على تشريع المتعة إنما هي هذه الجملة أعني قوله: ذلك لمن لم يكن «إلخ»، دون قوله: فمن تمتع بالعمرة إلى الحج، و هو كلام مطلق غير مقيد بوقت دون وقت و لا شخص دون شخص و لا حال دون حال.

قوله تعالى: و اتقوا الله و اعلموا أن الله شديد العقاب، التشديد البالغ في هذا التذليل مع أن صدر الكلام لم يشتمل على أزيد من تشريع حكم في الحج ينبىء عن أن المخاطبين كان المترقب من حالهم إنكار الحكم أو التوقف في قبوله و كذلك كان الأمر فإن الحج خاصة من بين الأحكام المشرعة في الدين كان موجودا بينهم من عصر إبراهيم الخليل معروفا عندهم معمولا به فيهم قد أنسته نفوسهم و ألفته قلوبهم و قد أمضاه الإسلام على ما كان تقريبا إلى آخر عهد النبي فلم يكن تغيير وضعه أمرا هينا سهل القبول عندهم و لذلك قابلوه بالإنكار و كان ذلك غير واقع في نفوس كثير منهم على ما يظهر من الروايات، و لذلك اضطر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أن يخطبهم فيبين لهم أن الحكم لله يحكم ما يشاء، و أنه حكم عام لا يستثني فيه أحد من نبي أو أمة فهذا هو الموجب للتشديد الذي في آخر الآية بالأمر بالتقوى و التحذير عن عقاب الله سبحانه.

قوله تعالى: الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج إلى قوله: في الحج، أي زمان الحج أشهر معلومات عند القوم و قد بينته السنة و هي: شوال و ذو القعدة و ذو الحجة.

و كون زمان الحج من ذي الحجة بعض هذا الشهر دون كله لا ينافي عده شهرا للحج فإنه من قبيل قولنا: زمان مجيئي إليك يوم الجمعة مع أن المجيء إنما هو في بعضه دون جميعه.

و في تكرار لفظ الحج ثلاث مرات في الآية على أنه من قبيل وضع الظاهر موضع المضمر لطف الإيجاز فإن المراد بالحج الأول زمان الحج و بالحج الثاني نفس العمل و بالثالث زمانه و مكانه، و لو لا الإظهار لم يكن بد من إطناب غير لازم كما قيل.

و فرض الحج جعله فرضا على نفسه بالشروع فيه لقوله تعالى: و أتموا الحج و العمرة لله الآية، و الرفث كما مر مطلق التصريح بما يكنى عنه، و الفسوق هو الخروج عن الطاعة، و الجدال المراء في الكلام، لكن السنة فسرت الرفث بالجماع، و الفسوق بالكذب، و الجدال بقول لا و الله و بلى و الله.

قوله تعالى: و ما تفعلوا من خير يعلمه الله، تذكرة بأن الأعمال غير غائبة عنه تعالى، و دعوة إلى التقوى لئلا يفقد المشتغل بطاعة الله روح الحضور و معنى العمل، و هذا دأب القرآن يبين أصول المعارف و يقص القصص و يذكر الشرائع و يشفع البيان في جميعها بالعظة و الوصية لئلا يفارق العلم العمل، فإن العلم من غير عمل لا قيمة له في الإسلام، و لذلك ختم هذه الدعوة بقوله: و اتقوني يا أولي الألباب، بالعدول من الغيبة إلى التكلم الذي يدل على كمال الاهتمام و الاقتراب و التعين.


المصدر: الميزان في تفسير القرآن.